إعادة التوازن الديمغرافي في غربي كوردستان ضرورة تاريخية وعدالة مؤجلة – 3/4

د. محمود عباس

 

هكذا، لم يكن “الحزام العربي” مجرد مشروع تغيير سكاني، بل كان محاولة لطمس هوية جغرافية، واقتلاع شعب من جذوره، وتحويل خريطة قومية إلى لعبة سياسية في يد نظام استبدادي يرفض التعدد ويرتعب من الاعتراف بالآخر.

لم يكن هذا سوى تمهيد كارثي لما تلاه من موجات منظمة من العبث الديمغرافي قادها النظام البعثي، كسياسات الإفقار الممنهجة التي مارستها السلطات السورية عشوائية، والتي استهدفت البنية الاجتماعية الكوردية في عمقها، بدءًا من زعماء العشائر والعائلات المؤثرة، عبر فرض الحصار الاقتصادي عليهم لدفعهم نحو الهجرة وتفكيك النسيج العشائري المتماسك، وصولًا إلى الشريحة الثقافية والفكرية من معلمين ومهندسين وكتّاب، من خلال حرمانهم من فرص التوظيف أو نفيهم إلى مناطق نائية، أو زجّهم في وظائف لا تمتّ لاختصاصاتهم بصلة، بهدف تهميشهم وتجفيف منابع الوعي القومي الكوردي. وكانت الغاية النهائية من كل ذلك دفعهم نحو الهجرة الطوعية، وكأنهم يختارون الرحيل عن وطنهم بأيديهم، بينما الحقيقة أنهم كانوا يُقتلعون منه بصمت وببطء.

تواصلت هذه الموجات العنصرية المنظّمة لاحقًا مع الاحتلال التركي لعفرين ومناطق من الشهباء وسري كانيه وكري سبي؛ حيث، وبسبب الحرب، وتحت غطاء العمليات العسكرية، وفيما بعد بفعل انتهاكات الفصائل المسلحة المدعومة من أنقرة، هاجرت عشرات الآلاف من الكورد من مناطقهم. وفي المقابل، وبتواطؤ تركي مباشر، أُسكنت عائلات من مناطق أخرى مكانهم ضمن سياسة ممنهجة لتغيير البنية السكانية، مما أدى إلى تفريغ جغرافي منظم للوجود الكوردي في مناطقه التاريخية.

تُشير تقارير منظمات حقوق الإنسان، ومراكز الدراسات الكوردية التي تابعت هذه الإشكالية عبر عقود، إلى أن إجمالي من تم تهجيرهم قسرًا، أو نزحوا خوفًا من السياسات العنصرية، يناهز المليونَي كوردي. وهذه ليست أرقامًا فضفاضة، بل مستندة إلى بيانات تراكمية من تقارير دولية، أبرزها تقارير هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، بالإضافة إلى أرشيفات المجلس الوطني الكوردي، والإدارة الذاتية، ومنظمات الشتات الكوردي في أوروبا.

المسألة لم تكن مجرد نزاع سياسي، بل عملية اقتلاع من الجذور، تم فيها محو القرى، وتبديل لوحات التاريخ واللغة، وتبديل السكان أنفسهم، في واحدة من أقسى عمليات التغيير القسري في الشرق الأوسط الحديث.

وبناءً عليه، فإن معالجة هذه الإشكالية لا تتعلق فقط بحقوق الكورد، بل بمستقبل سوريا كلها؛ فبلدٌ يقوم على أساس الخداع الديمغرافي، والاقتلاع القومي، هو بلد مهدّد بالتفكك، مهما طالت الأيام. والمصالحة الحقيقية لا تقوم إلا على أرضية الاعتراف، والعدالة، وإعادة الحق إلى نصابه.

لذلك، حين نقرأ أو نسمع ما ينشره أيتام البعث وورثة الخطاب العروبي المتطرف، خاصة أولئك الذين احتضنهم الكورد يومًا على أرضهم في غربي كوردستان، والجزيرة الكوردستانية، قبل أن تولد سوريا كوطن مفترض، ندرك حجم الزيف الذي يُساق حول “أغلبية عربية” مزعومة في غربي كوردستان. إنهم اليوم يتبجحون بتفوقهم العددي، ويتحسسون من مجرد ذكر النظام الفيدرالي اللامركزي، رغم أنه، في جوهره، ليس سوى أداة ديمقراطية تُعيد توزيع السلطة وفقًا لصناديق الاقتراع لا الدبابات.

لكنّهم يعلمون، تمامًا، أن ما يخشونه ليس النظام الفيدرالي، بل الحقيقة. يعلمون أن الخرائط الديمغرافية التي يعتزون بها رسمتها أنظمة الاستبداد بخنجر قسري، عبر مستوطنات، وتهجير، وسحب جنسية، وقوانين عنصرية، وأن فتح هذا الملف في ظل دولة قانون، ومراقبة دولية، ومؤسسات حقوق إنسان، سيُخرج كل شيء إلى العلن، نسب التغيير القسري، خريطة المستوطنات، قرى تم اجتثاث الكورد منها، وبلدات غُرّب سكانها الأصليون ليُستجلب مكانهم من لا صلة لهم بالجغرافيا والتاريخ.

ستنكشف أكذوبة الأغلبية حين تعود الحقوق إلى أصحابها، وعندها فقط، لن تكون لهم حجة تُخفي ورائهم حقيقة تاريخهم الملطخ بالتواطؤ مع مشاريع التعريب، بل ستكون صناديق الاقتراع بمثابة شهادة وفاة لأيديولوجيا الاستعلاء القومي، وبداية لحقبة يُبنى فيها الوطن على الاعتراف المتبادل، لا على الطمس والإقصاء.

مع ذلك وليعلم الجميع، وبشكل خاص الحكومة السورية الانتقالية التي ترفض النظام الفيدرالي اللامركزي لغايات عنصرية لا تختلف عن غايات أيتام البعث والنظام البائد، والتي يجب أن تعترف قبل أي منظمة سورية أو دولية إقليمية أو عالمية، إن استعادة التوازن الديمغرافي اليوم ليست مشروع انتقام، بل ضرورة لتحقيق العدالة التاريخية والتنمية المتوازنة. وهي تستدعي منهجيتين مترابطتين:

يتبع…

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

31/5/2025م

 

 

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…