نحو عقد اجتماعي جديد: اللامركزية مدخلٌ لوحدة سوريا وتنميتها وعدالتها

فيصل يوسف*

 

منذ الاستقلال، عاشت سوريا تحت نظم حكم اتسمت بالمركزية الصارمة، إلا أن هذه المركزية بلغت ذروتها بعد استيلاء حزب البعث على السلطة، وتحديدا في ظل نظام الأسد الأب والابن، حيث تكرّست سلطة مطلقة في يد المركز، وتحوّلت الدولة إلى بنية أمنية مغلقة، سيطر فيها الحزب الحاكم على مؤسسات الدولة والمجتمع، وأُقصيت المكونات القومية والسياسية، وضُيّقت الحريات، وتمّ إضعاف الحياة السياسية والنقابية لصالح هيمنة السلطة المركزية.
لقد أدى هذا النظام المتصلب إلى نتائج كارثية، فالمركزية الشديدة لم تكن فقط أداةً لضبط الدولة، بل كانت وسيلةً لتهميش المناطق، وتكريس التفاوت التنموي، ومنع مشاركة المجتمعات المحلية في إدارة شؤونها، ما فاقم الشعور بالظلم والاغتراب لدى قطاعات واسعة من الشعب السوري. وعندما انفجرت الثورة عام 2011، لم يكن ذلك ضد نظام سياسي فقط، بل ضد نموذج حكم كرّس الاستبداد لعقود. وقد دفع الشعب السوري ـ بمختلف مكوناته ـ ضريبة باهظة في الأرواح والدمار، وما زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم.
أحد أبرز الدروس المستخلصة من التجربة السورية، أن النظام المركزي المتسلط ليس ضمانة للوحدة، بل هو سبب في الانفجار والانقسام، وعلى النقيض، فإن تبني نظام لامركزي ديمقراطي، يوزع السلطات والصلاحيات بين المركز والمناطق، هو السبيل الواقعي لبناء دولة وطنية قوية تتسع لجميع أبنائها. وفي خِضَمِّ الحوارات الوطنية والدولية حول مستقبل سوريا، تبرز أصوات ما تزال ترفض أي طرح للامركزية، وتُصوِّرها كتهديد لوحدة البلاد، وهذا خطأ فادح، فالدول المستقرة التي نجحت في إدارة تنوعها القومي والديني والثقافي، اعتمدت صيغا متعددة من اللامركزية، مكنت مواطنيها من المشاركة في القرار، وحققت توازنا تنمويا بين المركز والأطراف. هذه النماذج لم تؤدِّ إلى الانفصال، بل عززت التماسك الوطني. في المقابل، فإن الإصرار على إعادة إنتاج المركزية القديمة في سوريا، تحت مبررات السيادة والوحدة، لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج جذور الأزمة. من هنا، فإن المطالبة باللامركزية ليست بدعة، ولا مؤامرة خارجية، بل هي استحقاق وطني تمليه معاناة السوريين وتجربتهم القاسية. ونحن، من موقعنا كمكون أصيل من النسيج الوطني السوري، وكشعب كردي عانى طويلاً من نتائج المركزية الصارمة والتهميش والإقصاء، ومورست بحقه سياسات تمييزية استهدفت وجوده القومي، نؤكد أن من حقنا الطبيعي والمشروع أن نطرح رؤيتنا حول شكل وهوية الدولة السورية المستقبلية، تماما كما هو حق لجميع المكونات الوطنية الأخرى. إننا لا نطالب بامتيازات، بل نطالب بالاعتراف المتبادل، وبأن تُبنى الدولة الجديدة كونها متعددة القوميات والأديان، على قاعدة المواطنة المتساوية والعدالة التوزيعية، لا على إعادة إنتاج مركزية تسلطية أثبتت فشلها.

بناء سوريا الجديدة يتطلب ثقافة سياسية جديدة، تقوم على التعددية والعدالة والشراكة، الدولة التي نطمح إليها هي دولة لكل أبنائها، بمختلف انتماءاتهم، تُبنى على أساس المشاركة لا الهيمنة

إن النظام اللامركزي الموسع، الذي ننادي به، يقوم على منح صلاحيات حقيقية، إدارية ومالية وتشريعية، للمجالس المحلية المنتخبة، وإعادة النظر في التقسيمات الإدارية التي وُضعت سابقا لخدمة الضبط الأمني لا لخدمة التنمية، كذلك، فإن هذا النموذج يجب أن يُقرّ بحقوق المكونات القومية والثقافية، وفي مقدمتها حق الشعب الكردي، باعتباره ثاني مكون من حيث عدد السكان، ويكفل تمثيله العادل ومشاركته الفعلية في إدارة شؤون البلاد. أما محاولات تصوير اللامركزية على أنها مشروع للتقسيم، فهي تتجاهل حقائق الواقع، فالتجربة العراقية ـ رغم خصوصياتها ـ أثبتت أن الفيدرالية التي أُقرّت هناك لم تكن تفكيكاً للدولة، بل استجابة لمظلومية تاريخية، وتعبيرا عن نضال طويل من أجل الشراكة. وفي سوريا، فإن الاعتراف بالقضية الكردية بوصفها قضية وطنية، لا يمكن تأجيلها أو اختزالها، هو جزء أساسي من مشروع المصالحة الوطنية وإعادة بناء الدولة.
هذه المصالحة لا تخص الكرد وحدهم، بل تشمل جميع السوريين الذين عانوا التهميش في حلب، ودير الزور، ودرعا، والسويداء، وحمص، وكل مناطق الوطن. إنها تتطلب عقدا اجتماعيا جديدا يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويضمن المشاركة الفعلية في القرار، ويكرّس حقوق المواطنة المتساوية.
ولا يمكن تحقيق الاستقرار دون خطوات ملموسة، منها:
1 ـ إنشاء هيئات مستقلة للحقيقة والإنصاف، توثق الانتهاكات وتضع أسس العدالة الانتقالية.
2 ـ تأسيس صناديق تنموية للمناطق المحرومة لمعالجة التفاوتات الاقتصادية.
3 ـ انتخاب مجالس محلية بصلاحيات واسعة تشريعيا وتنفيذيا.
4 ـ وضع نظام ضريبي عادل يضمن التوزيع المنصف للثروات الوطنية.
5 ـ إدراج ضمانات دستورية تحول دون عودة الاستبداد بأي صيغة كانت.
إن بناء سوريا الجديدة يتطلب ثقافة سياسية جديدة، تقوم على التعددية والعدالة والشراكة، وتقطع مع منطق الإقصاء والغلبة. الدولة التي نطمح إليها هي دولة لكل أبنائها، بمختلف انتماءاتهم، وتُبنى على أساس المشاركة لا الهيمنة. فاللامركزية الموسعة، عندما تُصاغ بوصفها أداةً للوحدة الوطنية والتنمية المتوازنة، تصبح مدخلا ضروريا لبناء سوريا ديمقراطية مستقرة، تحترم تنوعها وتستوعب آمال شعبها، الذي دفع أثمانا باهظة من أجل الحرية والكرامة والعدالة.

==============

  • المنسق العام لحركة الإصلاح الكردي – سوريا

المصدر: القدس العربي

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…