شروط الحوار والحل لم تكتمل بعد

صلاح بدرالدين

من أجل تفعيل العوامل الذاتية والموضوعية للحوار من أجل حل القضية الكردية السورية

عودة سريعة إلى ما قبل خمسين عاما، وحينما بدأنا بالتواصل مع أطراف الحركة الوطنية السورية بتياراتها القومية، واليسارية، كنا نصطدم بعض الأحيان برفض محاورينا لوجود قضية كردية. كان القومي، وبشكل خاص المتأثر بفكر البعث، ينفي وجود أية قومية أخرى غير القومية العربية، وذلك استنادا إلى الأيديولوجية العنصرية التي روجها منظرو البعث من عفلق إلى الأرسوزي انتهاء بسعيد السيد. وعندما كان أحدهم يريد تلطيف الرفض كان يلجأ لمقولة إن الكرد مهاجرون، ويمكن أن نتعامل معهم كما تتعامل الدول الأوروبية مثلًا مع الجالية العربية، أي حقوق المواطنة.

أما اليساري، وخاصة في زمن (الجبهة الوطنية التقدمية)، فكان يصر أن النظام الاشتراكي هو الحل لكافة القضايا، ويجب أن نتعاون جميعا لتحقيق هذا النظام. ولكننا لم نكن نستسلم لحججهم التعجيزية الواهية، التي تظهر التهرب من مواجهة الحقيقة، أو النأي بالنفس عن إشكاليات وتبعات هذه القضية الوطنية العادلة بامتياز.

في حقيقة الأمر، وأكررها على الدوام، إن القضية الكردية السورية بدأت منذ صدور النسخة الأولى من الدستور الوطني ما بعد الانتداب، الذي اعتبر سوريا دولة بسيطة يتكون شعبها من قومية واحدة وهي العربية. وجميع الحكومات والأنظمة التي حكمت البلاد استندت إلى الدستور في تعريف الشعب السوري، وتجاهلت حقيقة أن سوريا متعددة القوميات، والثقافات، بل إن نظامًا مثل البعث أراد أن يثبت صحة بنود الدستور بالقضاء على الكرد عبر الحرمان من حق المواطنة، والتهجير، وتغيير التركيب الديموغرافي لمناطقهم.

الشروط الواجب توفرها للبدء بالحوار من أجل الحل

من المعلوم، واعتمادًا على تجربة الحركة السياسية الكردية السورية بالذات، هناك شروط يجب أن تتوفر للتمهيد لعملية الحوار السلمي بين ممثلي الكرد من جهة والدولة من جهة أخرى بحثًا عن حلول مرضية:

١ – الشرط الأول: توفر الإجماع، وبما أن القضية لها طابع قومي، فمن الضروري توفر اتفاق غالبية التعبيرات القومية الوطنية، والثقافية، والمدنية، مع الأخذ بعين الاعتبار ازدياد أعداد الوطنيين المستقلين بالمجتمعات الكردية في الداخل والخارج، ومحدودية التمثيل الحزبي.

٢ – الشرط الثاني: زوال نظام الاستبداد الشوفيني الذي فاقم معاناة الكرد، وطبق بحقهم المخططات العنصرية، وأضاف تعقيدات جديدة لقضيتهم، وهذا ما تحقق منذ نحو ستة أشهر.

٣ – الشرط الثالث: حل القضية الكردية على قاعدة التوافق الوطني، وعبر المؤسسات الدستورية، والقانونية، وفي إطار وحدة سوريا الجديدة.

في العامل الذاتي الكردي

أولا: هناك مشكلة كبرى في العوامل الذاتية، ولا تتوفر الشروط المطلوبة. فالحركة السياسية الكردية، التي تتصدرها أحزاب فريقين، ليست مفككة ومنقسمة ينخرها الفساد فحسب، بل تابعة ومسلوبة القرار، وارتبطت بالعامل الخارجي على الصعيد الإقليمي. صحيح من حيث الأسماء والمسميات هناك سيولة في العدد، ولكن من دون قاعدة، واستراتيجية، خاصة إذا علمنا أن حزبين فقط يتحكمان بعشرات الأحزاب لأنهما المصدر المالي، وهما بدورهما وكيلان للعمق الخارجي.

وفي أحدث تجربة، ظهر مدى حجم الأزمة التي تعاني منها (الحزيبات) كلها، والمقصود عندما قرر حزبان إسدال الستار على مشهد المؤتمر الجامع، واللجنة التحضيرية، بجرة قلم وعقد (كونفرانس) ثنائي شكلي، ومن دون الاستماع إلى الرأي الآخر. والأنكى من كل ذلك عدم صدور اعتراض أو تفسير من عشرات (الحزيبات) الدائرة في فلكهما.

كما أرى، وعلى ضوء حقيقة أننا مازلنا في مرحلة – التهيئة – للحوار مع دمشق، وليس إيجاد الحل للقضية الكردية، فإن الحالة الكردية السورية الراهنة تحتاج إلى متسع من الوقت لتذليل معوقات العامل الذاتي، وذلك بإعادة بناء الحركة من جديد، خصوصا ونحن في بداية مرحلة جديدة تحرر فيها وطننا من نير الديكتاتورية، وتحصل تطورات نوعية مساعدة في أكثر من ساحة، خصوصا قرار حل حزب العمال الكردستاني، وانسحاب ذلك – كما قرر زعيم الحزب المنحل ومؤسسه – على الساحة السورية.

والخطوة الأولى هي العمل المشترك من أجل توفير شروط المؤتمر الكردي السوري الجامع بشكله الديموقراطي، ومن خلال لجنة تحضيرية تعبر عن الاصطفاف الراهن في الساحة الداخلية وفي الخارج (حيث نصف الكرد السوريين)، والعملية هذه، ومن أجل نجاحها، تحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد.

ثانيا: أحد الشروط الأساسية التي يجب توفرها من أجل عقد المؤتمر المنشود، هو التوصل إلى حل سلمي في موضوع – قسد – حسب البيان الصادر سابقا، وخصوصا في الجانب العسكري والأمني، وزوال عقبة تحكم سلطات الأمر الواقع الحزبوية الآيديولوجية في المناطق الكردية، وتوفر الحرية في العمل السياسي، والثقافي، والجماهيري.

ثالثا: عدم تدخل أي طرف كردستاني في شؤون الكرد السوريين السياسية، لأن ذلك التدخل يتم على أساس حزبي، وجلب لنا الانقسامات، والمواجهات الجانبية، والارتباط بالمحاور الخارجية حيث لا ناقة لنا فيها ولا جمل كما يقال. كما أن ذلك التدخل يتنافى مع سيادة بلادنا ما بعد الاستبداد. إن توحيد الحركة عبر المؤتمر المنشود من شأنه إقرار صيغة متقدمة سليمة حول العلاقات القومية.

رابعا: على القوى المحتلة في سوريا، وفي مناطقنا، وعلى قوى التحالف الدولي التي كادت أن تصبح طرفا في الصراع الكردي – الكردي، أن ترفع أيديها عن أمورنا الداخلية. ولأنها دول، عليها التفاهم مع الدولة السورية بدمشق، ولا تتعامل مع ميليشيات، وأحزاب، وسلطات الأمر الواقع، وذلك سيساعد شعبنا في المضي قدما لتصحيح مسار حركته السياسية من دون تدخلات، وعوائق.

في العامل الموضوعي الوطني

حدد الفصيل العسكري (هيئة تحرير الشام) الذي حرر دمشق، وأسقط نظام الاستبداد، الفترة الانتقالية بخمسة أعوام، وأنشأ إدارة انتقالية من لون واحد، وبدأت مؤسساتها الحكومية بالعمل، حيث حققت خطوات عملية، خاصة في المجال الدبلوماسي الخارجي، والعلاقات الدولية والإقليمية، ونسبيا الاقتصادية. وأعلن مرارا أن الكرد جزء من النسيج الوطني، وحقوقهم محفوظة من دون تحديد المدد الزمنية لمعالجة الموضوع، أو وضع أسس للأولويات، والآليات التي ستعتمد من أجل الحل النهائي.

كل الدلائل تشير – حسب إشارات المشهد العام، وبناء على معطيات تجربتنا في حراك “بزاف” بهذا الشأن – فإن الإدارة الانتقالية في دمشق لم تتوصل بعد إلى إدراج الملف الكردي السوري في سلم أولوياتها – الحوارية – الآنية، للأسباب التالية:

أولا: لأن القضية الكردية جزء من العملية السياسية الديموقراطية في البلاد، ومن الشراكة الوطنية العامة، ولأنها قضية خاصة بالمكون الكردي، أي بنحو ١٥٪ من سكان سوريا، فإنها ترتبط بالقضايا الوطنية الأخرى، ولن تجد سبيلًا للحل بمعزل عن العام.

ثانيا: قد تكون من أولويات الإدارة إنجاز الحل السلمي لمعضلة – قسد – العسكرية، والأمنية، وهو توجه سليم في محله، وهي تحتاج إلى وقت لتعقيداتها الإقليمية، وتشابكها بمسائل الأمن القومي لدول مجاورة، خصوصا تركيا.

ثالثا: وهو الأهم، تعلم الإدارة بشكل واضح أن المناطق الكردية تعيش في ظروف استثنائية، وتتوزع بين احتلالات، وسلطات أمر واقع غير شرعية، وأن الحركة السياسية الكردية مفككة، ومنقسمة (مثل أحوال الحركة الوطنية السورية وأكثر)، وأحزابها الحالية مرتهنة لقرار الخارج، وليست هناك جهة كردية تمثل بشكل حقيقي كامل إرادة وطموحات الكرد السوريين. لذلك، قد تعتقد أن إعادة الأمور الكردية إلى نصابها تحتاج إلى وقت وجهد ومثابرة.

رابعا: من الواضح أن عودة الثقة المفقودة تحتاج إلى وقت طويل، فلست أظن أن الدولة أو السلطة في دمشق ستقبل بازدواجية السيادة على التراب الوطني، أو أنها ستعترف بالدور الوطني التمثيلي – التحاوري لأي حزب يعتمد مرجعيات خارج الحدود، ويرفع صور رموز غير معتمدة دستوريا.

الكرة في ملعبنا

فليعذرني أصحاب الأحلام – السعيدة! – من مسؤولي الأحزاب – المتنفذين – الذين وزعوا بينهم مناصب (زعيم الإقليم، والمحافظ، ومدراء المناطق والنواحي، ومخاتير القرى، وقادة الأمن، وانتظار تقلد رتبة – الفيلد مارشال)، عندما أرى أننا ككرد سوريين ما زلنا في بداية الطريق الطويل.

وعلينا، إن أردنا فعلا عمليا وليس تمنياتيا تحقيق طموحات شعبنا المشروعة، الابتعاد عن تضليل شعبنا، ومعرفة أحجامنا، والعودة إلى الرشد، باعتماد مراجعة واقعية نقدية، والتصالح مع أنفسنا أولا، والاتحاد الطوعي من أجل توفير شروط التهيئة للحوار، وصولا إلى عقد المؤتمر الكردي السوري المنشود في عاصمة بلادنا دمشق، وقد يحتاج الأمر إلى شهور وأعوام.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…