تعقيب على مداخلة السفير الأمريكي في تركيا

صلاح بدرالدين

السيد توماس باراك، سفير الولايات المتحدة في أنقرة، والمبعوث الرئاسي الخاص إلى سوريا، والصديق المقرب إلى الرئيس الأمريكي، صرح قبل أيام لوسائل الإعلام عن التوجهات الأمريكية الجديدة حيال سوريا، وللأهمية الفائقة لمضمون مداخلته الإعلامية المعمقة، أرى من الفائدة التعقيب عليها، ومناقشة المفاصل الأساسية التي تطرق إليها.

“قبل قرن من الزمان فرض الغرب خرائط وانتدابات، وحدودا مرسومة بالقلم، وحكما أجنبيا…”

والمقصود كما أرى الاتفاقية التي أُبرمت عام 1916 بين كل من فرنسا وإنكلترا، وروسيا القيصرية، لتقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية من البلدان والشعوب في الشرق الأوسط بشكل خاص، حيث حلت السيطرة الأوروبية على شكل استعمار، وانتداب، بدلًا من الحكم العثماني، وقامت دول وكيانات جديدة، ورُسمت حدود لا تزال تشكل قنابل موقوتة تنفجر في وجه شعوبها عند الحاجة.

وقُسّمت بلدان “من أجل المكاسب الإمبريالية، وليس لتحقيق السلام…” بحسب السيد باراك. وحُرمت شعوب، واستُبعد الكرد والفلسطينيون من ذلك الكرم الأوروبي! وخرجوا دون سائر شعوب المنطقة (من المولد بلا حمص)، وقامت – إسرائيل – وتم تقسيم كردستان – العثمانية بين تركيا، وسوريا، والعراق، حيث قُسمت كردستان التاريخية سابقًا في القرن الخامس عشر بين الإمبراطوريتين – السنية العثمانية –، والشيعية الصفوية.

“هذا الخطأ كلف أجيالا ولن نكرره مرة أخرى…”

إنه خطأ كان مخططا له من أجل مضاعفة التعقيدات أمام تحرر الشعوب، وسيادة البلدان. ومن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن شريكة الأوروبيين خلال التقسيم الاستعماري للشرق، ولم يكن حلف الناتو موجودا آنذاك، ولم يكن للأمريكيين أي دور يذكر في المنطقة حتى أوائل القرن العشرين، حيث تعاظم دورهم عندما حلّوا محل الأوروبيين وبشكل خاص البريطانيين لدى انسحابهم من الخليج منذ نهاية الستينات من القرن الماضي.

“عهد التدخل الغربي قد انتهى…”

وهو أمر واضح، فالقارة العجوز في أضعف حالاتها، حتى إن دولا أفريقية من بقايا الاستعمار الفرنسي، ومن أقرب الموالين لباريس على سبيل المثال بدأت بالابتعاد، وحتى طرد الجنود الفرنسيين من أراضيها، وإغلاق القواعد العسكرية الفرنسية، وقطع العلاقات الدبلوماسية معها. حتى الولايات المتحدة الأمريكية الحليفة المفترضة لبلدان أوروبا وفي ولاية الرئيس ترامب بدأت تتعامل مع قضايا الشرق الأوسط بمعزل عن الدول الأوروبية بل وفي معظم الأحيان تتضارب المصالح، والمواقف، بينها.

“المستقبل سيبنى على حلول إقليمية، وعلى شراكات، ودبلوماسية تقوم على الاحترام”

هذه المداخلة النوعية جاءت بعد قرار المجتمع الدولي في معالجة أمر – الحروب بالوكالة – في منطقتنا، والتي اتخذت فيها – إسرائيل – مكان الصدارة حيث تقاطع المصالح، فالمنظمات المسلحة، والميليشيات الإرهابية، وسلطات الأمر الواقع توسعت أكثر من اللازم، وأصبحت تنافس الدول عددا وعدة وتسليحا، وكذلك خرجت من سيطرة أولياء نعمتها، وبدأت تشكل خطرا على التجارة العالمية ومصادر، وممرات النفط والغاز، والأكثر خطورة أن معظمها إن لم تكن كلها تأتمر بأوامر ولي الفقيه الإيراني الذي يسعى جاهدا لصنع القنبلة النووية.

بالإضافة طبعا، لم يعد هناك معسكران كما كان في القرن الماضي، وحلفان عسكريان، واصطفاف ثنائي عالمي أيديولوجي، وقد كان الرئيس الجورجي – شيفارنازدة – سباقا في توصيف العالم ما بعد سقوط الثنائية (الاشتراكية – الرأسمالية) بعبارة – توازن المصالح – المؤدي إلى السلام والاستقرار، والحفاظ على مصالح الجميع من خلال الشراكة العادلة.

“ولت الأيام التي كان فيها التدخليون الغربيون يأتون إلى الشرق الأوسط لإلقاء المحاضرات عن كيف يجب أن تعيشوا، وكيف يجب أن تحكموا أنفسكم…”

وهذا بحد ذاته اعتراف ضمني بالأساليب الملتوية، والمضللة التي اتبعها الغرب – الولايات المتحدة الأمريكية، والبلدان الأوروبية – تجاه شعوب العالم باسم حقوق الإنسان، والديموقراطية، والعدالة، وبالشعارات البراقة الخالية من أي مضمون التي أطلقها المسؤولون الغربيون تجاه المنطقة مثل – الشرق الأوسط الجديد – و – السلام العادل – و – حرية الشعوب -، من جهة أخرى اعتراف أيضا بأن شعوب العالم وخاصة بالشرق الأوسط أصبحت واعية لمصالحها، وتستطيع إدارة شؤونها، وبلغت سن الرشد، ولا حاجة بعد اليوم لاستعمار، وانتداب، وانقلابات عسكرية مخططة لها.

سوريا

“ولدت مأساة سوريا من الانقسام، ويجب أن تأتي ولادتها الجديدة من خلال الكرامة، والوحدة، والاستثمار في شعبها. ويبدأ ذلك بالحقيقة وتحمل المسؤوليات، وبالعمل مع أهل المنطقة، وليس من حولها…”

حصل الانقسام في ظل حكم نظام البعث الذي بدأ باسم القومية، وانتهى بالأحادية الحزبية، والإدارية، والطائفية، والعائلية. وقامت الثورة السورية من أجل استعادة الحرية والكرامة، وإجراء التغيير الديموقراطي، وكأنه يشير إلى ما جرى من استغلال لثورة السوريين من قريب وبعيد، ومحاولات استثمارها من أجل النفوذ والمصالح الخاصة، إلى درجة أن بعض النظم السياسية الإقليمية، والعالمية تعاملت مع فصيل عسكري هنا، ومجموعة ميليشياوية هناك على أساس مناطقي، أو طائفي، مما عمّق الخلافات البينية، وزرع الفتنة التي تحولت إلى اقتتال في أكثر من مكان، مما دفعت الثورة الثمن على حساب إجهاضها، وظهور القوى المضادة للمعارضة الحقيقية.

تركيا

“نقف إلى جانب تركيا، ودول الخليج، وأوروبا، لكن هذه المرة ليس بالقوات العسكرية والمحاضرات أو الحدود الوهمية، بل جنبًا إلى جنب مع الشعب السوري نفسه”

والترجمة كانت بغاية السرعة، فمن اللقاء بين الرئيس الأمريكي – ترامب – والسوري – الشرع – في الرياض وبوساطة سعودية، إلى قرار رفع جميع العقوبات عن سوريا، انتهاء بتطبيع وتعزيز العلاقات الأمريكية السورية، والتفاهم الأمريكي الكامل مع تركيا بخصوص الملف السوري، والاعتراف بالدور التركي إلى جانب السعودي والخليجي عموما في إعادة بناء الدولة السورية، ودعمها اقتصاديا، وسياسيا، وعسكريا، وأمنيا.

وبالحقيقة، هذا هو الطريق للوقوف إلى جانب الشعب السوري في هذه المرحلة بالذات، أما الإشارة أن الدعم لن يكون بالقوات العسكرية فهي تأكيد على الانسحاب العسكري الأمريكي من قواعدها بسوريا حيث تمركزت بعهد نظام الاستبداد للضغط عليه أولا، ومعالجة متطلبات محاربة الإرهاب ثانيا، ومواجهة النفوذين الروسي والإيراني أخيرا، ومعظم هذه الأسباب لم تعد قائمة، وحتى التواجد العسكري للتحالف بالمستقبل سيتم بالتنسيق مع الدولة السورية التي نالت اعتراف الجميع.

“ومع سقوط نظام الأسد، أصبح الباب مفتوحا أمام السلام، ومن خلال رفع العقوبات، نتيح للشعب السوري الفرصة لفتح ذلك الباب واكتشاف طريق نحو الازدهار والأمان من جديد”

نعم، بات تحقيق السلام الداخلي في متناول اليد بعد إسقاط الاستبداد رغم بعض العوائق، واعتراف المجتمع الدولي بالعهد الجديد، وبعد أن شعرت جميع القوى الإقليمية، والعالمية المعنية بالملف السوري مدى خذلانها للثورة السورية، وشعورها بالذنب في تدخلاتها العشوائية بالشأن الداخلي السوري، حيث ظهرت النتائج الكارثية للعيان.

حتى نحن الكرد أصبحنا ضحية تدخلات – الأشقاء – التي أدت إلى انقسام، وتفكك حركتنا السياسية الوطنية، وفقدت استقلاليتها، وحملت الشراذم المتبقية والوافدة أجندات الآخرين على حساب القضية القومية، والشخصية الكردية السورية المستقلة.

فنحن الكرد السوريون سنكون بخير، وأكثر أمانا برفع الهيمنة عن كاهل شعبنا، وانسحاب المسلحين، والوكلاء من مناطقنا، وعدم التدخل بشؤوننا الخاصة، وتركنا لنداوي جراحنا بأنفسنا، ولنتفق على توفير شروط عقد مؤتمرنا الجامع، وإنجاز مهامه ثم الاتفاق مع شركاء الوطن بدمشق.

ملحوظة: ناقشت النصوص وليس ما في النفوس.


شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…