عبد الجابر حبيب
فسيفساء وطنٍ مهدَّدة بالمحو
منذ استقلال سوريا عام 1946، تشكّلت ملامح وطنٍ يحاول النهوض من رماد الاحتلال والتجزئة. وطنٌ آمن أبناؤه بتعدديته: عرب، وكرد، وسريان، وأرمن، وآشوريون، وشركس، وتركمان… فسيفساء لا ينقصها سوى الاعتراف المتبادل.
لكنّ كل شيء تغيّر عام 1958 مع قيام الوحدة بين سوريا ومصر، حين أُضيفت كلمة “العربية” إلى اسم الدولة، فأصبحت “الجمهورية العربية المتحدة”، وبعد الانفصال أصبحت “الجمهورية العربية السورية”.
كان ذلك إعلاناً صريحاً بإقصاء المكونات غير العربية عن الفضاء الوطني، وطمس هويّاتها، بل ومحوها من الوثائق الرسمية والتعليمية والديموغرافية.
سورية ما تزال تتأرجح بين الحلم والخذلان
ما تزال سورية تتأرجح بين أحلام المكونات السورية في نيل حقوقها، وواقعٍ استبداديٍّ فرضته عائلة الأسد التي جعلت من البلاد مزرعةً يجنون منها الخيرات، خاصة من منطقة الجزيرة.
أُرغم العربي على الخضوع لحكمٍ بعثي لا مفرّ منه، ومن حاول أن يتنفّس، لُفّقت له تهمة “الصدامي”. أما الكردي، فبقي في الظل، مهمَّشاً لأكثر من نصف قرن، وتُهَمته جاهزة: “يريد الانفصال”.
مع سقوط النظام، ظنّ الجميع أن الحلم بات قريباً: دولة تقوم على العدالة والمساواة.
لكنّ ما ظهر لاحقاً أنّ الإعلام السوري، حتى بعد الثورة، ظلّ يحمل بذور الفكر الشوفيني البعثي، ويعيد إنتاج رواية النظام حول الكرد.
إعلام لم يتحرّر من ميراث البعث
لم تختلف لهجة الإعلام السوري المعارض كثيراً عن إعلام البعث. الأغلبية، دون تعميم، ما زالوا يردّدون نفس اتهامات النظام للكرد: تهميش، انفصال، استقواء بالخارج.
ورغم أن الجميع يدرك أن إدخال كلمة “العربية” على اسم الدولة جاء في سياق سياسي هدفه الهيمنة، لا تزال هذه الكلمة محلَّ تمسّكٍ شديد، وكأنها عصا سحرية لتوحيد وطنٍ متعدد الهويات.
البعثيون أنفسهم سعوا إلى تشويه صورة الوحدة مع عبد الناصر بقمعهم للكرد، ومنعهم من التحدث بلغتهم أو سماع أغانيهم. واستمر القمع للكردي حتى نهاية الحكم الأسدي، حتى بعد قيام الثورة السورية ضد البعث في عام 2011
كنت شاهداً، بصفة “أمين سر” في إحدى المدارس في مدينة القامشلي، على قرارات مجحفة بحق الطلاب الكرد، منها: “يُمنع منعاً باتاً إعطاء أية ورقة مختومة بختم المدرسة لأي مكتوم”، وهو قرار خاصّ بكل الطلاب الكرد الراغبين بتقديم امتحانات الشهادة الإعدادية الحرة.
ناهيك على إن الأسماء الكردية قدعُرّبت قسراً منذ زمن ليس بالقريب، ومُنع الكردي من التوظيف، واعتُبر “عربياً” في الأوراق الرسمية، مجرداً من كيانه وهويته، السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل مازال البعثي الذي ارتدى لباساً فضفاضاً يريد خنق المكونات السورية، ومنهم الكرد؟
الدولة التعددية حلمٌ ممكن… لا مؤامرة
ما الضير أن يحصل الجميع على حق المواطنة الكاملة؟ لماذا لا نعود إلى لوحة الفسيفساء كما كانت قبل البعث؟
في دولة تعددية لا مركزية، تتوزّع فيها الموارد بعدالة، تُصان فيها اللغات والثقافات، ويُعاد الاعتبار إلى كلّ مكون؟
لماذا يُصرّ الإعلام السوري على ما يُفرّق؟ ولماذا يتبنى خطاب “وحدة الأراضي السورية” كذريعةٍ لإقصاء الكرد، رغم أنهم لم يطالبوا بتقسيم البلاد يوماً؟
ألم يكن أكثر من رئيس، أو رئيس وزراء في سوريا كردياً؟ أليس في ذلك دليلٌ على أنّ العيش المشترك كان ممكناً قبل أن يُختزل الوطن في هويةٍ واحدة؟
ماذا يعني حين يُطلب من الكردي أن يحمل جنسية مكتوباً عليها “ع.س” (عربي سوري)، فالأمر لم يعد يخصّ الانتماء السياسي فقط، بل أصبح إجباراً على الانصهار القسري في قومية ليست قوميته.
كيف تُفرض العدالة حين يُطلب من غير العربي التخلي عن اسمه ولغته وتراثه؟
أليس من المفترض أن تكون الدولة وطناً مشتركاً للجميع، لا مرآةً لهويةٍ واحدة؟
ازدواجية فاضحة في الخطاب الإعلامي
من اللافت أن الإعلاميين السوريين، يمارسون ازدواجية فاضحة.
أحدهم – ولن أذكر اسمه لأن حديثه يمثل تياراً إعلامياً كاملاً – يبرّر بقاء أكثر من ستة آلاف مقاتل أجنبي من “تحرير الشام” لأنهم تزوجوا سوريات، ولا يجوز “أخلاقياً” إعادتهم قبل تشكيل مجلس شعب جديد!
في المقابل، يُهاجم الكرد بشراسة، ويتساءل عن بقاء عناصر من حزب العمال الكردستاني ضمن “قسد”، رغم أنهم قلّة.
لماذا يُجرَّم الكردي بسبب بضعة مقاتلين، في حين يُبرَّر وجود الآلاف؟
هل لأن أولئك قاتلوا الكرد، وهذا كافٍ لتبييض سجلهم؟
ما بعد البعث: إعلام يعيد إنتاج الإقصاء
رغم سقوط نظام الأسد فعلياً، ما يزال الخطاب الإعلامي السوري الذي كان معارضاً لحكم البعث الإقصائي، يعيد إنتاج نفس العقلية الإقصائية.
التمسّك باسم “الجمهورية العربية السورية”، واتهام الكرد بالانفصال، وعدم الاعتراف بلغتهم وهويتهم… كلّها مؤشرات على غياب الرغبة في بناء دولة على أسس المواطنة المتساوية.
المطالبة بإسقاط كلمة “العربية” من اسم الدولة ليست مؤامرة، بل دعوة صادقة إلى الوحدة.
الوطن ليس شعاراً، بل عقدٌ اجتماعي.
ليس من العدل أن يُطلب من الكردي أن يكون “عربياً” ليُعترف به كمواطن.
بل الأجدر أن تكون الدولة “جمهورية سورية” تسعُ الجميع، دون تصنيف أو إقصاء.
من الذي يتنصّل من الاتفاق؟
اين اللاوطنية في كلام القيادي الكردي الذي صرح قبل أيام بأن “سوريا لا مركزية تعددية ديموقراطية هي الحل الأمثل لجميع القضايا العالقة الراهنة”
هذا لا يتعارض مع ما أعلنته الرئاسة السورية عن ضرورة “اتفاق شامل” مع “قسد”.
لكن، في الواقع، الدولة لم تقم بأي خطوة فعلية. فكيف يُتهم الطرف الكردي بالتنصل؟
من يُعطّل الاتفاق فعلاً؟ من يرفض الاعتراف بالمكونات؟ ومن يدفع نحو التفكيك، لا الوحدة؟
وأخيراً: ما بعد الاسم… هوية وطن
“الجمهورية السورية” اسمٌ جامع، بينما “الجمهورية العربية السورية” اسمٌ طارد.
بين اسمٍ يوحّد، وآخر يُقصي، تكمن حقيقة يخشاها البعض؛ أن الكردي لن يصمت بعد اليوم أمام محاولات الطمس، ولن يقبل أن يُقال له: كن عربياً… أو لا تكن.
المطلوب اليوم ليس المزايدة، بل الاعتراف، والإصغاء الحقيقي لأصواتٍ لم تُسمَع من قبل.
فالهوية ليست قيداً، بل فضاءٌ للحرية والانتماء.