الحل الكردي في المعادلة الوطنية السورية

فيصل يوسف

منذ اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، وبدء الحراك الشعبي المطالب بالحرية والكرامة، وجدت الحركة السياسية الكردية نفسها أمام استحقاقات وطنية وقومية كبيرة، فرضت عليها إعادة ترتيب أولوياتها وتطوير أدواتها السياسية لمواكبة هذه التحديات.

وقد دفعت هذه المتغيرات الأحزاب الكردية إلى تكثيف اللقاءات والمشاورات لتوحيد الصف وتشكيل موقف سياسي موحد يعكس تطلعات الشعب الكردي ضمن المشهد السوري المتغير. كما أثمرت هذه الجهود عن انعقاد المؤتمر الوطني الكردي الأول في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وتأسيس “المجلس الوطني الكردي”، ليكون مظلة جامعة تمثل الشعب الكردي في سوريا، رغم غياب حزب “الاتحاد الديمقراطي” (PYD) عن هذا التأسيس الهام.

كان غياب “PYD” عن المؤتمر نقطة تحول بارزة ومحطة فارقة في المسار السياسي الكردي، إذ بادر الحزب إلى تشكيل كيان سياسي موازٍ هو “مجلس الشعب لغرب كردستان”، ما أدى إلى بروز تمثيلين سياسيين في الساحة الكردية السورية، وهو ما خلق تحديات كبيرة أمام توحيد الخطاب والموقف الكرديين.

ورغم مبادرات عديدة لتقريب وجهات النظر، أبرزها مبادرة الرئيس مسعود بارزاني عام 2012 التي نتج عنها اتفاقات هولير ودهوك، فإن الخلافات الجوهرية بقيت قائمة وعميقة، خاصة بشأن رؤية كل طرف لمستقبل سوريا، وشكل الإدارة في المناطق الكردية، والعلاقة مع النظام والمعارضة السورية على حد سواء، وهو ما أثر على فعالية العمل الكردي المشترك.

من جهته، حرص المجلس الوطني الكردي على الانخراط الفاعل في العملية السياسية العامة للمعارضة السورية، إيمانا منه بوحدة المصير السوري وبضرورة الحل الشامل. وشارك في مؤتمرات عديدة أبرزها مؤتمر القاهرة، وحصل على عضوية الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وشارك أيضا في مؤتمر الرياض عام 2015.

شكل هذا المؤتمر الأخير نقطة تحول إيجابية، حيث شهد الإقرار من قبل معظم قوى المعارضة السورية لأول مرة بأن القضية الكردية قضية وطنية تتطلب حلا عادلا ودستوريا ضمن إطار الدولة السورية الموحدة. وقد أكد المجلس دوما على حقوق الشعب الكردي المشروعة ضمن وثائق المعارضة، وتم تثبيتها في مذكرات اعتمدت رسميا في مؤتمرات جنيف والرياض، وتبنتها هيئة التفاوض السورية، ما عكس تقدما في الاعتراف بحقوق المكون الكردي. ورغم هذه الخطوات الإيجابية على صعيد العمل مع المعارضة، استمرت الخلافات مع “PYD”، خصوصا مع استمراره في فرض إدارة أحادية ومنع العمل السياسي للمجلس الوطني الكردي في مناطق نفوذه، ما أسهم في إجهاض محاولات التفاهم الكردي-الكردي مرارا وتكرارا، وأثر سلبا على قدرة الأكراد على تقديم جبهة موحدة.

وفي ظل تعقيدات المشهد السوري المتشابك، تبلورت قناعة لدى أطراف دولية وإقليمية بضرورة توحيد الموقف الكردي-السوري، انطلاقا من أن الشعب الكردي مكون رئيس لا يمكن تجاهله أو تهميشه في أي حل سياسي مستقبلي لسوريا. وقد تُوِّجت هذه الجهود بعد إسقاط النظام السوري السابق بتعاون مثمر أفضى إلى انعقاد كونفرانس “وحدة الصف والموقف الكردي” في 26 أبريل/نيسان 2025، بمبادرة بناءة من الرئيس مسعود بارزاني، وبالتنسيق مع الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية، وبدعم من قوى التحالف الدولي التي تدرك أهمية الاستقرار في المنطقة. وقد تم في الكونفرانس إقرار وثيقة سياسية هامة حددت رؤية الحركة الكردية لمستقبل سوريا، مؤكدة على حقوقهم ومشاركتهم.

رغم هذا التطور الإيجابي، صدرت تصريحات من بعض الجهات السورية تربط الكونفرانس ومخرجاته بالاتفاقات التي جرت بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية “والتي تشكل خطوة مهمة لمعالجة مختلف القضايا في البلاد” واعتبرتها مناقضة له، في تجاهل متعمد لحقيقة أن القضية الكردية ليست طارئة أو وليدة اللحظة، بل هي قضية تاريخية راسخة منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة.

إن المطالب الكردية طالما تمثلت بالسعي لحل عادل وشامل ضمن إطار وحدة البلاد، ورفع السياسات التمييزية الممنهجة التي تعرضوا لها لعقود. في هذا السياق، شكلت الوثيقة السياسية الصادرة عن الكونفرانس محطة وطنية سورية هامة ومتقدمة، حيث أكدت بوضوح أن الشعب الكردي جزء لا يتجزأ من الشعب السوري، وأن سوريا المستقبل يجب أن تكون ديمقراطية تعددية لا مركزية، تضمن حقوق جميع مكوناتها القومية والدينية، وعلى رأسها الشعب الكردي، من خلال الاعتراف الدستوري به وبوجوده كمكون أصيل في الدولة السورية وضمان مشاركته الفاعلة في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كما أن الحركة السياسية الكردية بصدد تقديمها إلى الحكومة الانتقالية القادمة من خلال وفد كردي مشترك، بهدف المساهمة الفاعلة في بناء دولة دستورية حديثة تعكس التعدد القومي والثقافي والديني الغني لسوريا. إن الحركة السياسية الكردية تؤمن بأن مصلحة الشعب الكردي الحقيقية تكمن في شراكة وطنية فعلية وبناءة ضمن سوريا موحدة لا مركزية. وهناك مساعٍ حثيثة كي تبادر الحكومة الانتقالية لإعادة تفعيل المؤسسات الخدمية والتعليمية في المناطق الكردية، وربطها بوزارات الدولة المركزية، وقد شهدت المنطقة زيارة وفود لهذه الغاية، تمهيدا لحوار أوسع وأكثر جدية حول مستقبل الإدارة المحلية والمركزية.

مؤشرات إيجابية

ثمة مؤشرات إيجابية متزايدة لإيجاد حلول سياسية شاملة ومستدامة في سوريا بعد الانفتاح الدولي والإقليمي عليها ورفع العقوبات عنها، مما قد يفتح آفاقا جديدة للحوار والحل. كما يشكل معالجة القضية الكردية في تركيا بوسائل سلمية ديمقراطية، بعد دعوة السيد عبد الله أوجلان لاعتماد الخيار السلمي الديمقراطي لحل القضية الكردية هناك، وهي دعوة لاقت دعما من المجلس الوطني الكردي وأحزاب كردية أخرى في المنطقة. وفي هذا السياق، أعلن حزب “العمال الكردستاني” استعداده للتخلي عن السلاح والتحول نحو العمل السياسي السلمي، ما يعزز فرص الحل السلمي العادل والشامل في تركيا والمنطقة عموما، ويخلق بيئة أكثر استقرارا.

إن جوهر القضية الكردية في سوريا لا يقوم على الانفصال، بل على تحقيق العدالة الكاملة والمساواة ضمن إطار وطني جامع يعترف بوجود الكرد كشعب له هوية وحقوق ثقافية وسياسية مشروعة، ويسعى إلى شراكة حقيقية في بناء سوريا الجديدة التي تتسع للجميع. هذه الرؤية الجامعة هي ثمرة نضال طويل خاضته الحركة السياسية الكردية رغم ما واجهته من سياسات التهميش والقمع والإنكار التي استمرت لعقود، كالإحصاء الاستثنائي الجائر لعام 1962 الذي حرم الآلاف من جنسيتهم، وتطبيق الحزام العربي الذي استهدف تغيير ديموغرافيا المنطقة، ومنع اللغة الكردية والثقافة الكردية، ومنع تشكيل الأحزاب السياسية الكردية، واعتقال النشطاء السياسيين والمثقفين.

ورغم كل هذه التحديات والانتهاكات، تمسكت الحركة الكردية بالحل السلمي والديمقراطي، ورفضت العنف والانغلاق، وطرحت مبادرات للحوار البناء مع باقي المكونات السورية، انطلاقا من إيمانها الراسخ بأن الحل الحقيقي والمستدام يكمن في عقد اجتماعي جديد شامل، يقوم على مبادئ المواطنة المتساوية، والتعددية الثقافية والسياسية، ونظام اللامركزية الموسعة. وترى الحركة الكردية أن الشكل الأمثل لسوريا المستقبل هو النظام الديمقراطي اللامركزي الذي يوزع الصلاحيات والمسؤوليات بشكل عادل، ويمنح المجتمعات المحلية القدرة على إدارة شؤونها وشؤون مناطقها، بما يعزز وحدة الدولة وسيادتها، ويضمن مشاركة كافة مكوناتها في القرار والتنمية المستدامة.

المطلوب اليوم هو الاعتراف الصريح والكامل بوجود الشعب الكردي كمكون وطني رئيس وأصيل في نسيج سوريا، وضمان تمثيله العادل في كافة الهيئات والمؤسسات، وفتح حوار وطني شامل ومفتوح يقوم على احترام الخصوصيات الثقافية والقومية، وتحقيق العدالة الانتقالية لجبر الضرر، وتحقيق انتقال سياسي شامل يضمن مستقبلا أفضل للجميع. سوريا التي نطمح إليها هي سوريا موحدة أرضا وشعبا، بنظام ديمقراطي لا مركزي يضمن الكرامة والحرية والمساواة لكل مواطنيها دون تمييز، ويحترم التعدد القومي والديني الذي لطالما كان جزءا من غنى سوريا. والشعب الكردي، من موقعه الوطني والأصيل، مستعد للقيام بدوره الكامل في هذا المسار البناء من أجل مستقبل مشترك أفضل ومزدهر لسوريا والمنطقة بأسرها.

==============

المصدر: مجلة المجلة

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…