كرد سوريا ووصاية الجزء الآخر: ازدواجية الخطاب والاستلاب المفروض

 إبراهيم اليوسف

على امتداد أربعة عشر عاماً من الحرب السورية، ومنذ ما بعد انطلاقة الثورة، دأب كثير من أنصار حزب العمال الكردستاني على وصم كل من يختلف معهم بأنه “أردوغاني”، في محاولة لإقصاء الصوت الكردي المستقل، وتشويهه، وقطع الطريق أمام أي خطاب سياسي مغاير.
لكنّ المفارقة الكبرى تكمن في أن الحزب ذاته، عبر فرعه السوري “الاتحاد الديمقراطي”، لم يتوقف عن إقامة صلات مباشرة أو غير مباشرة مع تركيا. فقد عُقدت لقاءات غير معلنة، وشارك ويشارك أنصار- الحزب الأصل- في البرلمان التركي، بل صدرت تصريحات رسمية بعد احتلال عفرين تفيد بالرغبة في إقامة علاقات مع أنقرة، حتى في عزّ الجراح المفتوحة.

أتذكّر جيداً أن بعض ممثلي المجلس الوطني السوري أكدوا في أكثر من مناسبة، بعد انطلاقتهم 2011 أن “ب ي د” سعى للانضمام إليه، ومن ثم  إلى الائتلاف، وكان ذلك قابلاً للتحقّق، لولا اصطدامه باعتبارات محددة، ولأسباب معروفة إلا أنه طالما طالب المجلس الوطني الكردي بترك الائتلاف وها هو في انتظار لحظة التنسيق مع تركيا- أردوغان- بعد أن وافق على مشروع السيد عبدالله أوجلان.

اليوم، وبعد كل تلك التناقضات، بات واضحاً أن تركيا تخطط لوأد أي احتمال لنيل كرد سوريا حقوقهم، مستندة إلى ذريعة “مكافحة الإرهاب”، في حين أن الهدف الفعلي هو كسر إرادتهم وسلبهم استقلاليتهم.

رغم كل المعاناة، لم يسجل التاريخ أن كرد سوريا مارسوا وصاية على إخوتهم في أجزاء كردستان الأخرى، لا مباشرة ولا مواربة. لكن، ومنذ دخول حزب العمال الكردستاني إلى روج آفا، فُرضت على كرد سوريا وصاية مركّبة، مارست العنف الناعم والخشن، من ترهيب وترغيب، وجرّت الشباب إلى حرب لا تعود عليهم إلا بالمآسي.

أخوة أم رهائن للخلاص؟
في واقع الأمر، بدا أن كرد تركيا جعلوا من كرد سوريا جسراً للوصول إلى جمهورهم في باكور، كما لو أنهم اتخذوهم رهائن لتحقيق اختراقهم السياسي. فبدلاً من مدّ يد العون إلى إخوة المعاناة، تم استثمار وجودهم في روج آفا كأداة ضغط وابتزاز، سياسيًّا وماليًّا، وحتى عسكريًّا، وكأن الخلاص في باكور لا يتحقق إلا عبر التضحية بكرد سوريا، وتذويب خصوصيتهم، وإسكات أصواتهم لصالح خطاب واحد، لا يحتمل التعدد ولا يحترم التباين. إن هذه العلاقة المختلّة ليست علاقة تكامل بين أبناء قضية واحدة، بل أقرب إلى علاقة فوقية، تحوِّل الأخوة إلى أدوات وظيفية، والرابطة القومية إلى شبكة استغلال.

وإذا كان كرد باكور- الذين يناهز عددهم أربعين مليوناً – يملكون ثقلاً ذاتياً، فلماذا يُطلب من أبناء روج آفا حمل عبء حروب لا تعنيهم؟ ولماذا يُزجّ شبابهم، وبخاصة الفتيات، في معارك خارجية لا تُبنى على إرادتهم، بل تُفرض عليهم بحجج شعاراتية؟

نحن، بطبيعة الحال، مع نيل جميع أجزاء كردستان لحقوقها كاملة، ولكن من دون وصاية، ومن دون أن يتدخل جزء في شكل احتلالي أو يستلب القرار الذاتي للآخر.

السؤال المفتوح: لماذا يُحلّل لهم الحوار مع من يريدون-  حتى الخصوم – ويُحرّم على غيرهم مجرد اللقاء مع جهة سورية ما لم يكن ذلك بإذن منهم؟ لماذا تمنع القوى الكردية الأخرى في روج آفا من الحضور والمشاركة إلا عبر بوابة الوصاية؟ وأين موقع الكرد السوريين، في ظل هذه الازدواجية، من الحق في الحوار الذاتي وبناء تفاهم داخلي سوري-سوري؟

لقد دُفع شباب كرد سوريا إلى معارك لا تخصهم، وتُركت منطقتهم رهينة أجندات لا تنتمي إليهم، في حين أن تلك القوى التي تزعم تمثيلهم، لم تكن سوى امتداد لحسابات قادمة من خارج الحدود، حوّلتهم إلى مجرّد أوراق تفاوضية.

كرد سوريا، بتجربتهم الخاصة، استحقوا أن يكون لهم قرارهم الحر. فهم ليسوا ملحقاً بأي مشروع، ولا مجرد ساحة لتجريب الوصايات أو تصريف الفوائض السياسية للآخرين. لقد آن الأوان للاعتراف باستقلاليتهم، واحترام صوتهم، والكف عن تخوين كل من يرفض الاصطفاف القسري، أو يعارض الزجّ بشبابه في صراعات عبثية.

إن وحدة الكرد لا تبنى بالقسر ولا بالوصاية، بل بالاحترام المتبادل، والتكامل، والاعتراف المتبادل بالخصوصيات والظروف. وكان الأجدر بمن جاء من خلف الحدود أن يدعم أهل الأرض، لا أن يتصدّرهم ويتحدث باسمهم ويمنعهم من التعبير عن أنفسهم.

في اللحظة التي يُمنع فيها الكرد السوريون من اتخاذ قراراتهم بحرية، ويُخيَّرون بين التبعية أو التخوين، نكون أمام جريمة أخلاقية وسياسية بحجم قضية شعب.
وكرد سوريا، ببصيرتهم وتجربتهم، لن يقبلوا بأن يكونوا مطية لأحد، ولا أن يُزجّ بشبابهم في حروب لا تعنيهم.
كفى وصاية. كفى تخويناً. كفى تحويل قضيّتنا إلى هامش في دفتر أجندات  الأخوة والآخرين.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
نورالدين ايبش
نورالدين ايبش
1 شهر

…….بدليل أنه كان هناك مترجمين مرافقين للكوادر الحزبية (المستَقدمين) نظراً لأنهم لا يعرفون لغة المنطقة التي هي تحت سيطرتهم

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…