رحلة الكُرد نحو الذات السياسية

بوتان زيباري

يا من تُنصت للتاريخ إذا نطق، وللجغرافيا إذا اشتعلت جبهتها نارًا، هلمّ نُصغِ لحكاية شعبٍ لم تكن الأرض يومًا عاقرًا من نضاله، بل كان هو الوليد الدائم في رحم الأمل، وإن قُطّعت حبال الميلاد مرارًا.

فمن مهاباد خرج الحُلم عاريًا إلا من شرف الفكرة، جمهورية من ياسمين البنادق ووضوح القاضي الشهيد، قاضي محمد، الذي كتب وثيقة الوجود بالحبر والدم معًا. لكنها سقطت كما تسقط الزهرة حين تجفّ الساقية، بعدما أغلق الدبّ السوفييتي حنفيّة الرعاية، فزحفت إيران بسيف الدولة ومخلب النفط، وتخاذلت القبائل كأنها لم تسمع مناداة الجبل. فمات الكيان، وبقي اسمه حيًّا على شفاه الحنين.

ثم تجدد الحبر، وعاد البارزاني ليضع بندقيته فوق طاولة بغداد عام 1970، سائلًا عن عدلٍ يُولد من تفاهم. لكن العراق لم يُرد كركوك إلا في بيت طاعته، ونفخَ في نار التعريب حتى اشتعلت الحرب من جديد، وكأن الجغرافيا لا تُكتب إلا باللغة التي يريدها الحاكم، لا تلك التي تنطقها الحجارة.

وفي عام 1992، حين انحنى الطاغية في بغداد بعد عاصفة الصحراء، تنفّس الكُرد نسيم الفيدرالية في شمال العراق، تحت جناح الطائرات الدولية الحامية. هناك كتبوا دستورًا للهوية، وعزفوا نشيدًا في البرلمان، لكن لم يُرفع علم الاستقلال، بل عَلِق على الحبال بين الريح والدبلوماسية.

أما اليوم، فالطريق لا يزال مزروعًا بالأشواك التي تنبتها يد الخارج والداخل معًا. تركيا وإيران تخافان من ولادة كردية قد تُنجب إخوةً على أراضيهما، فيردّان على الحُلم بخناجر الجغرافيا. أما في الداخل، فالخلاف بين الإخوة يُضعف البيت، ويُغري الطامعين بأن السقف هشّ. تُضاف إلى ذلك لعنة النفط، ذاك الذهب الأسود الذي لا يلمع إلا في جيب المركز، ولا يُضيء عتمة الاستقلال.

ولئن كان الدعم الدولي شحيحًا، فلأنه لا يرى في الدم الكردي مشروعًا يستحق الرعاية، إلا إذا مرّ عبر أنابيب الغاز ومصالح الشركات. فالعالم لا يحب القصائد الحرة، بل يُفضّل النصوص الخاضعة لرقابة السوق.

لكن متى يكون الاستقلال؟ أفي الزمن القادم؟ أم في زمنٍ نخلقه نحن؟
إن الاستقلال ليس موعدًا على تقويم الأمم، بل هو ثمرة شجرة تُسقى بوحدة الصف، وتُزهر بتحالف ذكي، وتُقطف حين تضعف عروش المستبدين وتنهار خرائط الحديد والنار.

فيا أيها الحالم الكُردي، لا تَعُد إلى دفاتر الخيبة، بل اكتب في الصفحة القادمة:

“لسنا شعبًا يبحث عن دولة، نحن ذاكرة تبحث عن صوتها، وهوية تُريد أن تخرج من ضجيج العالم إلى لحنها الخاص.”

الاستقلال، يا سادة، ليس قرارًا يُوقّع، بل روحًا تتجلى حين تتصالح الأرض مع أبنائها، والتاريخ مع دموعه.
وما ضاع حُلمٌ خلفه شعبٌ يُصرّ على المشي، ولو بأقدامٍ جُرحت من ألف خيانة.

السويد
27.05.2025

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…