النظام السوري الانتقالي بين الوصاية التركية وسقوط الأقنعة .. نهاية مؤجلة أم بداية للانهيار؟

د. محمود عباس

 

لا يُتوقع أن تنتهج إدارة دونالد ترامب، في هذه المرحلة، ذات المسار الذي سلكته إدارة براك أوباما في مقاربتها للملف السوري. فبينما كانت إدارة أوباما قد أعلنت رسميًا، في عام 2011، أن على بشار الأسد التنحي عن السلطة، فإنها سرعان ما انزلقت نحو سياسة أكثر حذرًا، تبنّت فيها لاحقًا استراتيجية “تحسين سلوك النظام” بدلًا من تغييره، خصوصًا بعد تصاعد التوجهات الإسلامية الراديكالية داخل أوساط المعارضة المسلحة، وهو ما خلق مخاوف أمريكية وغربية من انهيار الدولة السورية بيد قوى متطرفة، لا تقل خطورة عن النظام ذاته. هذا التغير في المقاربة ترافق مع صمت مريب حيال جرائم الأسد، وغضّ الطرف عن التمدد الإيراني والروسي في سوريا، في وقتٍ حوّلت فيه واشنطن تركيزها الاستراتيجي نحو مواجهة الصين كأولوية قصوى.

لكن السياق اليوم مختلف جذريًا، في ظل تعقيدات جديدة ومراكز قوى غير تقليدية. فالواقع السوري الراهن لا تحكمه منظومة استبدادية تقليدية فحسب، بل تهيمن عليه قوى تكفيرية أصولية تشكّل تهديدًا مستمرًا لمصالح وأمن الولايات المتحدة، وأوروبا، وإسرائيل. ولذلك، فإن أي مقاربة براغماتية تُظهر شيئًا من “قبول الأمر الواقع” تجاه هذا النظام، لن تعني أبدًا وجود ثقة سياسية أو استراتيجية به. فنهج هيئة تحرير الشام، القائم على الانتهازية والمراوغة الأيديولوجية، يحمل في جوهره بذور نهايته، كما حمل نظام البعث في خطابه القومي الزائف أسباب سقوطه الأخلاقي والسياسي. وإذا كان مؤتمر القمة العربية في بغداد قد شكّل لحظة اغتيالٍ للروح الوطنية، فإن ساعة الحقيقة بالنسبة للنظام “الانتقالي” الجديد آتية لا محالة. ستأتي اللحظة التي يُعرّى فيها هذا النظام أمام استحقاق واضح: إما الانزلاق نحو التطرف المعادي للقيم الإنسانية، أو الانتقال القسري نحو ليبرالية سطحية لا تملك الجذور، مجرد قشرة تُسقطها أول عاصفة صدق.

وفي تلك اللحظة، سيظهر عجزه البنيوي عن تمثيل مشروع دولة، وسينكشف وجهه التكفيري الإرهابي، حتى أمام أكثر الداعمين صمتًا أو تغاضيًا. ومن أبرز مظاهر هذا العجز، افتقاره التام للاستقلالية السياسية، إذ لا يزال أسيرًا لإملاءات تركيا وأدواتها، عاجزًا عن تجاوز وصايتها. كما يظل متمسكًا بوهم “المطلق المركزي”، متخيلًا الدولة المركزية كقيمة مطلقة لا تقبل الجدل، وكأنها تجلٍّ دنيوي لمطلقٍ إلهيّ، لا يُمس. هذا في الوقت الذي يُظهر فيه براغماتية انتقائية تجاه شروط أمريكا وإسرائيل، متخفيًا خلف مطالب مبهمة لدول عربية، لا تمتلك حتى رؤية موحدة لمستقبل سوريا.

ومع ذلك، لا تزال أمام النظام الجديد فرصةٌ متأخرة لإنقاذ ذاته، إن امتلك الجرأة وتحرر من الهيمنة التركية، وتجاوز وهم المركزية المطلقة، واعترف بحقوق كافة مكوّنات سوريا، وفي مقدمتها الشعب الكوردي، في إطار نظامٍ فيدرالي لا مركزي، يُكرَّس في الدستور الدائم، لا كمساومة ظرفية، بل كقاعدة وطنية للعدالة السياسية والشراكة الحقيقية. فذلك وحده ما قد يمنحه بعض الشرعية، ويحول دون أن يكون مجرد نسخة مشوّهة عن أنظمة الانهيار السابقة.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

18/5/2025

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…