صلاح عمر
في مرحلة بالغة الحساسية من تاريخ القضية الكردية في سوريا، وبينما تتصاعد التحولات الكبرى في المشهد السوري مع انهيار النظام وهروب رأسه إلى موسكو، تتجّه الأنظار إلى القوى الكردية بحثًا عن موقف موحد يقف على أنقاض التشتت والانقسام الذي طال أمده. وقد حمل مؤتمر قامشلو الأخير بشائر عهد جديد، حيث اجتمعت فيه أطياف الطيف الكردي من أحزاب وشخصيات ومنظمات مجتمع مدني لصياغة رؤية وطنية وقومية تمثل الجميع، بعيدًا عن الإقصاء والوصاية والتفرد بالقرار، فكانت الخطوة الأولى نحو استعادة الشخصية الوطنية الكردية في روزافاي كردستان من براثن الارتهان والانقسام.
غير أن ما كاد هذا الأمل أن يتبلور حتى خرجت علينا تصريحات آلدار خليل، عضو الهيئة الرئاسية لحزب الاتحاد الديمقراطي، معلنًا أن الوفد الكردي الذي سيذهب إلى دمشق هو جزء من وفد الإدارة الذاتية، ضاربًا بعرض الحائط كل ما تم الاتفاق عليه، ومتجاهلًا التحولات الكبرى التي تفرض على الجميع التواضع، وإعادة النظر في الحسابات السياسية، لا سيما في ظل تراجع مشروع الإدارة الذاتية وافتقاده إلى الشرعية الشعبية والمشروعية الوطنية بعد سنوات من التفرد والأخطاء الميدانية والسياسية.
هذا التصريح لم يكن مجرد رأي فردي، بل يحمل دلالات عميقة وخطيرة، تفصح عن محاولة إعادة إنتاج نهج قديم يقوم على الوصاية والاستحواذ، متجاوزًا مخرجات مؤتمر التوافق الوطني الكردي، الذي جاء بعد سنوات من المحاولات الفاشلة في هولير ودهوك وقامشلو، وبعد تدخلات إيجابية من قِبل الرئيس مسعود بارزاني، وفرنسا وأمريكا، لرأب الصدع الكردي. إن العودة إلى هذا النهج تعني ببساطة ضرب كل تلك الجهود عرض الحائط، وتفريغ الاتفاقات من مضمونها، والعودة إلى المربع الأول.
من غير المعقول أن يتحدث شخص لا يزال مسكونًا بثقافة قنديل عن تمثيل شعب يعيش في روزافاي كردستان، ويطمح إلى بناء مستقبل سياسي على أساس التشاركية والاعتراف المتبادل. من لا يستطيع القبول برأي موازٍ لرأيه، ولا يعترف بوجود الآخر، ولا يزال يتصرف وكأنه الوصي الشرعي الوحيد على القضية الكردية، لا يمكنه بأي حال أن يقود مفاوضات باسم الكرد، ولا أن يصوغ مستقبلهم السياسي. إن التعويل على هذا النموذج هو أقرب إلى مطاردة السراب، ولا يُنتج إلا المزيد من التهميش والخسارات.
الوضع الراهن في سوريا، بعد سقوط النظام وتولي قيادة انتقالية جديدة، يفتح نافذة تاريخية أمام الشعب الكردي لصياغة موقعه المستحق في سوريا جديدة، لا مركزية، ديمقراطية، تعددية. غير أن هذه الفرصة لا يمكن اغتنامها عبر نماذج متفردة وفاقدة للمصداقية، بل عبر عمل جماعي قائم على الشفافية والتمثيل الحقيقي لجميع المكونات السياسية والاجتماعية الكردية. إن الملف الكردي لا يُختزل بشخص أو حزب أو مشروع إداري مؤقت، بل هو قضية شعب يطمح إلى انتزاع حقوقه القومية والدستورية من خلال مسار تفاوضي شامل وموحد، يحظى بدعم وإجماع القوى الكردية أولاً، والشعب الكردي ثانياً، والاعتراف الوطني والدولي ثالثاً.
في هذا السياق، فإن مسؤولية المجلس الوطني الكردي كبيرة، ولا تحتمل التردد أو المجاملة السياسية. فالصمت عن تصريحات خليل يعني – ضمناً – قبولًا بإقصاء التوافق وتكريسًا لتفرد الإدارة الذاتية بالقرار، وهو ما سيفقد المجلس ما تبقى من شرعيته التمثيلية، ويضعف الورقة الكردية أمام الطرف المفاوض في دمشق. على المجلس أن يصدر بيانًا واضحًا، يرفض فيه هذا التوجه، ويؤكد أن الوفد الكردي، إن وُجد، يجب أن ينبثق عن مخرجات المؤتمر الوطني الكردي لا عن أجندة حزب بعينه، أيًا كانت شعاراته أو خلفياته.
كذلك يقع على حزب الاتحاد الديمقراطي مسؤولية مضاعفة في توضيح ما إذا كان خليل يتحدث باسم الحزب، أم يعبّر عن رأي فردي لا يُلزم أحدًا سواه. فإن كان التصريح يُمثّل موقف الحزب، فذلك نسفٌ واضح لمسار التوافق ويضع علامات استفهام كبرى حول صدقية مشاركته في المؤتمر الأخير. أما إن لم يكن كذلك، فعلى الحزب أن يعلن براءته من تلك التصريحات، ويؤكد التزامه بمخرجات الكونفرانس.
ما نحتاجه اليوم ليس المزيد من الخطابات والشعارات، بل سلوك سياسي مسؤول، يعيد الاعتبار للقرار الكردي التوافقي، ويضع حدًا للتفرد السياسي الذي كان من أبرز أسباب الإخفاقات في العقد الأخير. ليس من المقبول بعد الآن أن يُساق الشعب الكردي إلى مصيره على يد من لم يُنتخب، ولم يُفوّض، ويصر على التحدث باسمه رغم كل الدعوات للتهدئة والوحدة.
إننا على مفترق طرق تاريخي، إما أن نذهب إلى دمشق بصوت كردي واحد، محملٍ برؤية واقعية وموحدة، وإما أن نعيد إنتاج الانقسام والانقسام المضاد، ونمنح الآخرين الذريعة الكاملة لتهميشنا، والتفاوض من دوننا، وإدخال قضيتنا في نفق مظلم آخر. لا شيء أخطر من أن نمثل أنفسنا بغير من يُمثلنا، ولا جريمة أكبر من أن نُفرّط بهذه اللحظة التاريخية لمجرد إشباع نزوات سياسية هنا أو تنفيذ أوامر هناك.
الوطن لا يُبنى بالتفرد، ولا تتحقق الحقوق بالوصاية. من يحب شعبه لا يتحدث باسمه بل يُنصت إليه، ومن يريد مستقبلاً مشتركاً لا يتقدم إلا يداً بيد مع من يخالفه قبل من يوافقه. هذا هو امتحان المرحلة، فإما أن ننجح ونكتب فصلاً جديداً من تاريخنا، أو نخسر أنفسنا من جديد في لعبة لا نملك مفاتيحها.