اتفاق 26 نيسان: من توحيد الصف الكردي ، إلى اختبار الوطنية السورية.

اكرم حسين 

منذ أن دخلت سوريا نفق أزمتها الطويلة، اتضحت هشاشة العقد الوطني الذي بُنيت عليه الدولة الحديثة، وانكشفت التصدعات العميقة في العلاقة بين المكونات القومية والطائفية والاجتماعية ، وقد دفعت القضية الكردية، بوصفها واحدة من أبرز القضايا المؤجلة والمهمّشة، ثمناً باهظاً لهذا التصدّع البنيوي، بين سلطة قوموية أنكرت الوجود الكردي، ومعارضة لم تحسم موقفها من الحقوق الكردية ، وبين مجتمع دولي اكتفى بالتعامل مع الكُرد من زاوية وظيفية وأمنية. في هذا السياق المعقد، جاء الاتفاق الموقع في 26 نيسان 2025 بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، كاستجابة لحاجة تاريخية أكثر منها صفقة سياسية آنية، إذ حمل في جوهره محاولة لتجاوز الانقسام الداخلي وتقديم الذات الكردية بصورة أكثر نضجاً واتزاناً، لخوض معركة الشراكة الوطنية، لا معركة الغلبة أو العزلة.

الاتفاق، وإن حمل في ظاهره ملامح تفاهم سياسي بين قوتين رئيسيتين، إلا أنه في العمق، عكس تحوّلاً في الوعي السياسي الكردي، من حالة “التمثيل المتنازع عليه” إلى حالة “البحث عن وحدة القرار والمصير”. هذا التحول لا يمكن فصله عن السياق الأوسع لمأزق الحركة الوطنية السورية التي فشلت، حتى الآن، في بناء عقد سياسي جامع يعترف بالتعدد القومي والثقافي كمكوّن تأسيسي، لا كحالة طارئة أو استثناء. فالاتفاق الكردي لا يهدف إلى تنظيم العلاقة بين طرفين سياسيين فقط ، بل يسعى – من حيث يدري أو لا يدري – إلى إعادة طرح سؤال “الوطنية السورية” من جديد: هل نحن بصدد وطن يضم الجميع على أساس المواطنة المتساوية والاعتراف المتبادل، أم ما زلنا نعيش تحت وطأة سردية قوموية أحادية تسعى إلى تذويب التعدد تحت يافطة الوحدة الزائفة؟

الثقافة السياسية السائدة في سوريا، سواء لدى “النظام” الجديد أو من هم في الخارج ، ما تزال أسيرة نموذج الدولة القومية المركزية، الذي يربط بين الهوية والسيادة، وبين اللغة والانتماء، وبين المركز والهامش، ضمن معادلة صفرية لا تعترف بوجود الآخر إلا بوصفه تابعاً أو مهدِّداً. من هنا، فإن أي اتفاق كردي – إذا لم يُفهم ضمن سياق وطني أشمل – سيُواجه بسيل من التخوين والشيطنة، كما حدث مراراً في السابق، لأن الذهنية المركزية لا ترى في التوافق الكردي إلا مشروعاً موازياً للدولة، لا مكوّناً منها. والحال أن هذه الذهنية هي التي أوصلت سوريا إلى ما هي عليه، حين رفضت الاعتراف بالواقع التعددي، وفضلت قمعه بدل احتضانه.

يُمثّل الاتفاق الكردي الأخير فرصة لمراجعة المفاهيم المؤسسة للدولة السورية: ما معنى الوحدة الوطنية؟ ما حدود المركزية؟ من هو المواطن؟ وما موقع القومية الكردية في خارطة الانتماء السوري؟ إن أي محاولة لبناء سوريا المستقبل دون وضع هذه الأسئلة وغيرها في صلب النقاش السياسي والدستوري، لن تكون سوى إعادة إنتاج لفشل الدولة، مهما تزيّنت بشعارات الثورة والديمقراطية. من هذا المنطلق، فإن الأثر الحقيقي لهذا الاتفاق لا يقاس بقدرته على إنهاء الخلاف الكردي – الكردي، بل بقدر ما يفرض من أسئلة ومراجعات على النخبة السورية بأكملها، عربية وكردية وسريانية، حول ماهية الوطن الذي نريد.

لا يخفى على أحد أن طريق تنفيذ الاتفاق لا يزال طويلاً وشائكاً، وأن عوامل الفشل كامنة في التراكمات السابقة من عدم الثقة، وفي الهيمنة الأحادية لبعض القوى، وفي التجاذبات الإقليمية. لكن، في الوقت ذاته، فإن اللحظة التاريخية التي تمر بها سوريا تفرض على الجميع الانخراط في مشروع إنقاذ وطني، يبدأ من إعادة بناء العلاقة بين مكوناتها على أسس جديدة، تبدأ من الاعتراف وتنتهي بالشراكة ،  والكُرد، من خلال هذا الاتفاق، يًعلنون أنهم جزء من الحل لا من الإشكالية ، وأنهم يسعون إلى التأسيس لسوريا بحيث تتسع للجميع، لا سوريا يُعاد فيها إنتاج المركز القامع.

خلاصة القول، إن الاتفاق الكردي في 26 نيسان لا ينبغي أن يُختزل في شكله السياسي التنظيمي، بل يجب أن يُقرأ كمقدمة لتحوّل ثقافي في الفكر السياسي السوري، يفتح المجال أمام وطنية تعددية جديدة، تتجاوز ثنائية “الانفصال والوحدة” إلى فضاء أوسع ، حيث لا تُقصى الهويات، ولا تُكفّر الحقوق، ولا يُصادر الطموح القومي بحجة الخوف من التمزق والانقسام  ، ويبقى الاتفاق  بداية جديدة لمسار وطني طويل، أساسه الاعتراف، وروحه التعدد، وغايته العدالة والكرامة والمساواة للجميع.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…