علي شمدين
خلال متابعتي للندوات الحوارية التي أدارها الرفيق أحمد سليمان (نائب سكرتير حزبنا)، في العاصمة دمشق خلال (٢٩-٣٠/٤/٢٠٢٥)، والتي شارك فيها نخبة من المثقفين والسياسيين المهتمين بالشأن الوطني عموماً وبالقضية الكردية في سوريا وآفاق حلها بشكل خاص، والتي أقيمت في أعقاب اختتام أعمال (كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي في غرب كردستان)، وردود الأفعال الحاقدة التي أطلقها الشوفينيون من الوسط العربي حول نتائجه، حيث تمحورت معظم تلك الردود حول اتهام القائمين على الكونفرانس بالتآمر ومحاولة تقسيم البلاد والإنفصال عنه، حينها تذكرت عصر المنتديات والطاولات المستديرة التي كان حزبنا الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا وسكرتيره الراحل الرفيق (حميد درويش)، من أبرز روادها وخاصة خلال السنوات الأولى من بداية عهد بشار الأسد، والتي كانت تضم معظم الرموز السياسية والثقافية المعارضة حينذاك لنظام البعث، من أمثال (جاد الكريم الجباعي، وشبلي الشامي، ورياض سيف، جورج صبرا، ياسين الأخرس، ياسين حاج صالح، منير الخطيب، عبد الحفيظ الحافظ، عمر كوش، أكرم البني، يوسف مريش، سامر العطري..إلخ).
لقد تتوجت تلك النشاطات في عام (٢٠٠٥)، بتشكيل أول إطار تحالفي ضم مختلف القوى والشخصيات السياسية والثقافية ومن مختلف الانتماءات السياسية والدينية والقومية، وسمي ذاك الإطار باسم (إعلان دمشق)، الذي أقر في برنامجه حينذاك (بضرورة حل القضية الكردية في سوريا حلاً ديمقراطياً عادلاً)، ولعل الخيط الذي يربط هذه الندوات التي يقيمها اليوم الرفيق أحمد سليمان بتلك الندوات التي كانت تقام في دمشق منذ أكثر من ثلاثة عقود ونصف، والقاسم المشترك الذي يجمع المرحلتين معاً هو الشعور العميق بالخيبة تجاه هذه المواقف الشوفينية الصادرة من الوسط العربي ضد القضية الكردية في سوريا، سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة، والتي تعيد انتاج خطاب الكراهية والتخوين ضد الكرد، هذا الخطاب الممجوج الذي ظل نظام البعث يردده من دون جدوى لأكثر من ستة عقود، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على عدم اتعاظ الأنظمة الشوفينية اللاحقة من تجارب سابقاتها، مثلما يدل في الوقت نفسه على فشل القوى الوطنية الديمقراطية من الوسطين (الكردي، والعربي)، في مهمة التعريف بعدالة هذه القضية الوطنية التي هي قضية العرب مثلما هي قضية الكرد أنفسهم، وأن مسؤولية حلها تقع على الجانب العربي مثلما يقع على عاتق الجانب الكردي، وأن هذه الردود الشوفينية تنذر بالآفاق المظلمة التي تنتظر الإدارة الجديدة التي آن لها أن تقوم بإسكات مثل هذه الأصوات.
الحقيقة أن هذا الواقع الكارثي الذي نعيشه اليوم، قد أعاد الشعب السوري بمختلف مكوناته القومية والدينية، مهزوماً إلى نقطة الصفر، وذلك نتيجة احتكار هيئة تحرير الشام للسلطة وتفردها بقيادة الدولة والمجتمع، فأجهضت آمال التغيير التي دفع الشعب السوري ضريبتها من دموع ودماء الملايين من أبنائه من الشهداء والمعوقين والمفقودين واللاجئين والمشردين والمحرومين من كل فرص الحياة والعيش الكريم، وعادت لتدور من جديد ضمن دائرة شوفينية مغلقة مرسومة بلون واحد.
حيث تهيأت لهيئة تحرير الشام، مع سقوط بشار الأسد، فرصة تاريخية نادرة وفريدة من نوعها لتقفز في غفلة من الزمن إلى القصر الجمهوري في دمشق، وتقنع الجميع وخاصة السوريين الذين أنهكتهم الحرب المدمّرة طوال عقد ونصف، باستعدادها للتغيير السلمي وبناء دولة مدنية تسودها العدالة والمساواة ويقودها حكم رشيد يعكس ألوان النسيج الوطني المتنوع بألوانه الزاهية، وينظمها دستور عصري يضمن حقوق المواطنين وحقوق جميع المكونات القومية والدينية والثقافية والاجتماعية من دون تفرقة عنصرية أو تمييز شوفيني.
لا شك بأن المجتمع الدولي والإقليمي لم يكن هو الآخر غافلاً عن هذا التغيير الذي جرى في وضح النهار، وقد أبهره فرار الأسد بلمح البصر، وانهيار نظامه المنخور بذلك الشكل الدراماتيكي المخيب لحلفائه المقربين، الأمر الذي شكل المسمار الأخير في نعش الوجود الإيراني والهلال الشيعي ليس في سوريا فقط وإنما في المنطقة كلها، فبدأت الوفود تتسابق إلى دمشق، كل جهة تريد فيها موطئاً لقدمها تقودها إليها بوصلة مصالحها، هذا إلى جانب إجماعها، باستثناء تركيا وقطر، على بعض المبادئ الأولية التي ألزمت بها الإدارة الجديدة مقابل منحها الشرعية اللازمة، وفي مقدمتها إلزامها بحماية المكونات وخاصة المكون الكردي، وتثبيت حقوقه دستوريا وضمان مشاركته فعلياً في بناء سوريا الجديدة وإدارتها بشكل حقيقي.
الجميع كان يجزم بصعوبة الإختبار الذي يخوضه الرئيس المؤقت (أحمد الشرع)، لا بل استحالة نجاحه في تجاوز الامتحان، فظل يدعي المرونة والاستعداد للتغيير وقد خطا بالفعل خطوات شكلية في هذا الاتجاه، إلّا أن الرافعة العقائدية التي أوصلته إلى سدة الرئاسة قد أحكمت الطوق عليه إلى درجة أنها باتت تحاصره بداخلها ولا يمكنه أن يتحرر منها، حيث أحكمت قياداتها السيطرة على مفاصل الحكم واستولت على المواقع السيادية كلها، الأمر الذي يضعه في مواجهة تحديات مصيرية أهمها الإسراع في إقرار حقوق المكونات، وخاصة المكون الكردي الذي أبدى ممثلوه في كونفرانسهم الأخير المرونة الكاملة للمشاركة الفعلية (عسكرياً وإدارياً وسياسياً)، في بناء الدولة السورية الجديدة على أسس ديمقراطية لامركزية تضمن حقوقهم الدستورية، ولهذا فإن الحركة السياسية الكردية مدعوة لمواصلة ما بدأته قبل عقد ونصف، ومتابعة نضالها السلمي من أجل انتزاع حقوقه من دون يأس أو ملل بالتعاون مع المكونات الأخرى التي تجمعها معاناة مشتركة، والتي بدون الاعتراف بحقوقها لن تستقر البلاد أو تهدأ، ولعل الندوات التي أقامها الرفيق أحمد سليمان هي أول الغيث على هذا الطريق.
٢/٥/٢٠٢٥