التحالفات المتحوّلة في سوريا.. صراع التطبيع وإعادة تموضع تركيا وإيران في مواجهة الاستراتيجية الأميركية

د. محمود عباس

تشير المعطيات المتاحة إلى أنّ الولايات المتحدة تتابع بدقة التحوّلات المتسارعة في المشهد السوري، ولا سيما ما يتصل بعودة الأدوات الإيرانية إلى الداخل السوري ضمن إطارٍ أوسع يُعاد فيه إنتاج مفهوم “الجبهة الإسلامية الموحدة” في مواجهة الوجود الأميركي، وفي سياق التفاعلات الناجمة عن الحرب في غزة، وتمدد إسرائيل في الجنوب السوري. ويبدو أنّ هذه العودة ليست تطورًا معزولًا، بل جزءًا من مقاربة إيرانية تهدف إلى إعادة تنشيط شبكتها الإقليمية الممتدة عبر العراق وسوريا ولبنان، بما يعيد ترميم محور المقاومة وفق تصور استراتيجي متجدد.

وفي مقابل هذا التمدد، تتجه تركيا نحو إعادة صياغة موقعها الإقليمي، مدفوعةً بجملة من العوامل، أبرزها النقاش المتصاعد داخل الولايات المتحدة بشأن إدراج الإخوان المسلمين على لائحة الإرهاب. ورغم استثناء واشنطن لكلٍّ من تركيا وقطر من هذا التصنيف، فإنّ هذا الاستثناء لم يُخرج البلدين من دائرة الرصد الاستخباراتي. ومن هذا المنطلق، تحاول تركيا توظيف موقعها كدولة ذات هوية إسلامية سياسية معتدلة لتشكيل محور جديد يضم أطرافًا سنّية وشيعية معًا، بما قد يُفضي إلى إعادة تموضع في العلاقات مع إيران، وبصورة تتجاوز الأطر التقليدية لمنظمة التعاون الإسلامي.

تتأسس هذه المقاربة التركية على قراءة جديدة للصراع مع إسرائيل، ولا سيما في ساحته السورية. فالتوتر التركي–الإسرائيلي آخذٌ في التصاعد، ويترافق مع إدراك تركي بأن الدعم الأميركي المتزايد لقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، وتعزيز التعاون الأمني مع قوات البيشمركة، يشكل تهديدًا طويل المدى للمصالح التركية في شمال سوريا. كما تعي أنقرة أنّ موجات عدم الاستقرار في الشرق الأوسط مرشحة للتمدد عبر الحدود، ما يجعلها أكثر حساسية لأي فراغ استراتيجي محتمل في محيطها الإقليمي.

وفي الوقت ذاته، تعتمد إيران على استراتيجية إعادة تفعيل وكلائها التقليديين، ولا سيما حزب الله، والفصائل العراقية، والحشد الشعبي، بهدف تثبيت مبدأ “وحدة الجبهات” الذي يربط بين غزة، ودمشق، وبغداد، وبيروت. ويبدو أنّ هذه الاستراتيجية تستفيد من الانفتاح النسبي الذي توفره الظروف الجديدة في سوريا، ومن قابلية النظام السابق للتكيّف مع أي ترتيبات تُعيد إليه بعض التوازن الاستراتيجي المفقود.

تكتسب هذه التحولات بعدًا إضافيًا من خلال موقف قوى سنية داخل سوريا وخارجها، تعارض بشدة مسار التطبيع الجاري مع إسرائيل، والذي يمثل أحد أهم الملفات التي أوكلتها واشنطن إلى مبعوثها الخاص توماس باراك. وتعد هذه المعارضة السنية عاملاً حاسمًا في إعادة تشكيل الاصطفافات داخل المنطقة؛ إذ تتلاقى في هذا السياق مصالح القوى الشيعية بقيادة إيران مع القوى السنية بقيادة تركيا، لتشكّل جبهة اعتراض مشتركة على مسار التطبيع.

وتسعى هذه القوى إلى إقناع حكومة أحمد الشرع والقوى السنية المتحالفة معها بأن التطبيع سيؤدي إلى خسارة الغطاء الإسلامي–السياسي الذي يمنح شرعية داخلية للسلطة الجديدة، وإلى تقويض خطاب “المقاومة” الذي يستند إليه جزء واسع من القواعد الشعبية في الشمال السوري.

وبذلك تصبح مناهضة اللامركزية السياسية ليس فقط موقفًا إيديولوجيًا أو أمنيًا، بل أيضًا أداة للضغط على السلطة الانتقالية لثنيها عن الانخراط في مسار التطبيع، وربطها بمحور إسلامي معادٍ لإسرائيل.

وتقع هيئة تحرير الشام ضمن هذه التحولات باعتبارها الحلقة الأكثر تأثرًا بالتقلبات التركية.

 فبعد نحو عام على تولي أحمد الشرع رئاسة الحكومة الانتقالية، بدأت تظهر مؤشرات على اهتزاز موقع هذه الحكومة نتيجة التحول التركي نحو سياسة أكثر انفتاحًا على إيران، وهو ما يتعارض مع الوظيفة الأولى التي كانت أنقرة قد أسندتها إلى الهيئة، أي الحدّ من النفوذ الإيراني في الشمال السوري. وهو ما قد يسرع في احتمالية مراجعة أميركية هادئة لاستراتيجية مبعوثها الخاص توماس باراك، الذي بوادرها بدأت تظهر من خلال تصريحاته المتناقضة في منتدى الدوحة في 6-7/12/2025م وقبلها في حواره مع سكاي نيوز العربية بتاريخ 5/12/2025م، ومدى تأثير الإملاءات التركية على مواقفه، خاصة بالنسبة للنظام اللامركزي في سوريا، وبالتالي يفتح الباب أمام احتمالات إعادة تشكيل موقع الهيئة نفسها ضمن الخارطة الجديدة.

ويظهر التناقض المركزي في أنّ الولايات المتحدة تسعى إلى الحد من نفوذ إيران عبر دعم الإدارة الذاتية الكوردية وقوات سوريا الديمقراطية، في حين تعمل تركيا على تقويض هذا الدعم وإعادة توجيه مسار الصراع نحو صيغة “جبهة إسلامية” عابرة للطوائف، يمكن أن تمنح أنقرة دورًا قياديًا، وتمكّن إيران من العودة إلى المسرح السوري بصورة أكثر تنظيمًا.

وبناءً عليه، يمكن القول إنّ المشهد السوري يدخل مرحلة جديدة تشهد إعادة رسم شاملة لموازين القوى، تقوم على تفاعل ثلاث استراتيجيات رئيسة:

  • الاستراتيجية الأميركية التي تهدف إلى الحد من النفوذ الإيراني–التركي المشترك، وتثبيت الاستقرار عبر دعم الإدارة الذاتية و”قسد”.
  • الاستراتيجية التركية التي تسعى إلى تشكيل محور إسلامي موسّع يوحّد القوى السنية والشيعية ضد إسرائيل، لاستعادة دورها الاستراتيجي.
  • الاستراتيجية الإيرانية التي تعمل على إعادة تفعيل وكلائها لتثبيت مبدأ “وحدة الجبهات” وتوسيع نطاق المواجهة الإقليمية.

ومن المرجّح، ضمن هذا السياق، أن يتأثر مستقبل الحكومة الانتقالية في دمشق، وربما يتقلص عمرها السياسي، لأن وجودها مرتبط إلى حد بعيد بتوازنات خارجية أكثر منه بتفاعلات داخلية. فأنقرة تمارس ضغوطًا لإعادة فتح المجال أمام الميليشيات الإيرانية تحت ذريعة “الدفاع عن سوريا وغزة”، وهو ما يتعارض مع التوجه الأميركي، ويضع واشنطن أمام ضرورة إعادة تقييم مسارها السوري برمّته.

وعليه، فإنّ المشهد السياسي السوري يتجه نحو مرحلة جديدة، تُعاد فيها رسم خريطة الشرق الأوسط وكتابة خرائط السلطة فوق طاولة القوى الإقليمية والدولية، أكثر مما تُرسم فوق الجغرافيا السورية ذاتها، في لحظة تتقاطع فيها حسابات الأمن، والديناميات المذهبية، والحرب الإقليمية الممتدة من غزة إلى الجنوب السوري.

 

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

10/12/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

عبدالرحمن کورکی (مهابادي)* يواصل النظام الإيراني المضيّ في هستيريا الإعدامات، واهماً أنَّ نصب المشانق سيشكل سداً منيعاً يحول دون سقوطه الحتمي. بيد أنَّ هذه الإعدامات لا تفعل شيئاً سوى تعميق سجل جرائم النظام ومضاعفة فاتورة حسابه أمام التاريخ. وفي المقابل، فإنَّ غض الطرف عن هذه الاستباحة للأرواح لا يمثل مجرد صمتٍ عابر، بل يوصم دعاة «سياسة المهادنة» مع دكتاتورية…

سمكو عمر لعلي في زمنٍ تتعاظم فيه التحديات وتتشابك فيه الأزمات، يبرز العمل الجاد بوصفه اللغة الأصدق التي تُقاس بها القيادة. ومنذ تسلّم السيد مسرور بارزاني رئاسة مجلس وزراء إقليم كوردستان، شهد الإقليم حراكاً لافتاً في ميادين الإعمار والخدمات، تجسّد في مشاريع حيوية وشبكات طرق حديثة، تركت أثرها الواضح في حياة المواطنين وفي ملامح المدن والبلدات على حدّ سواء. لقد…

جومردحمدوش منذ الإعلان عن اتفاق 10 آذار بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، يتضح أن الاتفاق لا يزال محكوما بموازين القوة العسكرية والأمنية أكثر مما تحكمه رؤية سياسية شاملة لمستقبل سوريا بشكل عام. فالاتفاق يعكس تفاهمات بين سلطتي أمر واقع. الاشكالية الأساسية تكمن في حصر التفاوض حتى اللحظة بقوات قسد والادارة الذاتية، دون اشراك بقية…

صلاح بدرالدين هناك من يرى ويعتقد ان الدولة التركية ربطت مصير كرد سوريا ورهنته بنتائج المفاوضات بينها وبين زعيم حزب العمال الكردستاني – عبدالله اوجلان – ، والاصح وقبل ذلك كان وراء هذا الربط القسري قرار مركز قنديل بدعم إيراني – كردي عراقي ، ورغبة نظام الأسد ، وكان لكل طرف دافع خاص ، ومصلحة مشتركة بنهاية المطاف . مركز…