سليمان سليمان
في الآونة الأخيرة، شهدت بعض المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي بياناتٍ ونقاشًا متصاعدًا حول الدعوة إلى إلغاء واجب العزاء، لا سيما في بلدان المهجر الأوروبي، إلى جانب مطالبات أخرى بإلغاء تقديم الطعام في مجالس العزاء. هذه الطروحات، رغم أنها تُقدم أحيانًا بوصفها وحسب وجهة نظر أصحابها حلولًا تواكب نمط الحياة الحديثة، لكنني، مع كل الاحترام والتقدير لهم، أعتقد أنها غير واقعية، وتستحق وقفة نقدية جادة لما تحمله من آثار اجتماعية بعيدة المدى.
العزاء، في جوهره، ليس طقسًا شكليًا ولا عبئًا اجتماعيًا زائدًا، بل هو أحد أعمق أشكال التضامن الإنساني في مجتمعاتنا الكوردية والشرقية والإسلامية عمومًا. هو حضور ومشاركة وجدانية في لحظة فقدان عزيز ، حيث يكون الإنسان في أمس الحاجة إلى الإحساس بأنه ليس وحيدًا، وأن المجتمع ما زال قادرًا على الاحتواء.
الدعوة إلى إلغاء واجب العزاء غالبًا ما تستند إلى مبررات مثل ضغط العمل، وضيق الوقت، وبُعد المسافات. وهي مبررات مفهومة في سياق الحياة المعاصرة، لكنها تصبح إشكالية حين تتحول إلى ذريعة للتخلي عن الوقوف إلى جانب من فقد عزيزًا. فالسؤال هنا لا يتعلق بمدى صعوبة الحضور، بل بأولوياتنا الاجتماعية والأخلاقية: هل أصبح الانشغال اليومي مبررًا كافيًا للانسحاب من أبسط واجبات المواساة؟
إن اختزال العزاء في مكالمة هاتفية أو رسالة عابرة لا يمكن أن يعوّض الأثر النفسي للحضور الفعلي، ولو لساعات قليلة. فالعزاء ليس تبادل كلمات، بل تبادل شعور، وحضور الجسد هنا يحمل معنى لا تستطيع الوسائط الرقمية نقله.
الأخطر في هذه الدعوات أنها لا تقف عند حدود العزاء فقط، بل تفتح الباب لتآكل تدريجي لمنظومة القيم الاجتماعية. فالتنازل عن هذا الواجب اليوم، بحجة الظروف، قد يقود غدًا إلى التخلي عن عادات أخرى، إلى أن نصل إلى مرحلة ينشأ فيها جيل لا يمتلك تصورًا حيًا عن معنى التكاتف الاجتماعي، ولا يعرف كيف يجتمع الناس حول الألم قبل الفرح.
أما فيما يخص الدعوة إلى إلغاء تقديم الطعام في مجالس العزاء، فهنا يختلف النقاش نسبيًا. فقد تحوّل هذا التقليد، في كثير من الحالات، إلى عبء اقتصادي ونفسي على أهل الفقيد، بدل أن يكون فعل تضامن معهم. ومن هذا المنطلق، فإن إعادة النظر في هذه الممارسة أمر مشروع، بل وضروري أحيانًا، شرط أن يكون الهدف تخفيف المعاناة لا قطع الصلة بالقيم.
الإصلاح هنا لا يكون بالإلغاء الكامل، بل بإعادة التوازن: تقليل المبالغة، أو نقل عبء التنظيم إلى الأصدقاء المقربين والأقارب من أهل الفقيد، أو الاكتفاء بأشكال رمزية تحفظ المعنى دون إثقال كاهل المفجوعين.
إن الفرق الجوهري بين التحديث والتفريغ هو أن الأول يحافظ على الروح ويطوّر الشكل، بينما الثاني يجرّد العادة من معناها الإنساني باسم الواقعية. وإلغاء واجب العزاء لا يمثّل تحديثًا، بل تفريغًا لقيمة اجتماعية مركزية طالما شكّلت صمام أمان في أوقات الفقد.
فالمجتمعات لا تُقاس فقط بإيقاع العمل والإنتاج، بل بقدرتها على حماية روابطها الإنسانية في اللحظات الأصعب. والتقدم الحقيقي لا يعني القطيعة مع العادات، بل مراجعتها بعقل نقدي يحفظ جوهرها ويمنع تحوّلها إلى عبء أو إلى فراغ.
وأخيرًا أقول: العزاء ليس مجرد عادة قديمة متوارثة، بل هو حاجة إنسانية دائمة تتجاوز الزمان والمكان. صحيح أن المجتمعات حافظت على أشكال محددة للعزاء عبر التاريخ، لكن جوهره يظل استجابة فطرية للطبيعة الإنسانية، تعبيرًا عن التضامن والمواساة في لحظات الفقد، وهو ما يجعله ضروريًا في كل زمان ومكان، وليس مجرد تقليد من الماضي.