خالد حسو
تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني الذي يحدد أسس العيش المشترك، وينظم العلاقة بين الدولة والمواطنين على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، دون تمييز أو إقصاء. وغياب هذا العقد في الحالة السورية شكّل المدخل الأساسي لكل أشكال الاستبداد والاضطراب اللاحقة.
من الناحية القانونية، ينص الدستور السوري على حصر حق الترشح لرئاسة الجمهورية بالمسلمين، وهو نص يتناقض صراحةً مع المبادئ الدستورية الحديثة، ومع قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان التي تؤكد على عدم التمييز على أساس الدين أو المعتقد. ويُعد هذا الشرط إقصاءً قانونيًا مباشرًا لشريحة واسعة من السوريين، ويحوّل الانتماء الديني إلى معيار للحقوق السياسية، الأمر الذي يقوّض فكرة الدولة المدنية ويضرب جوهر المواطنة المتساوية.
أما على الصعيد التاريخي والثقافي، فإن تسمية الدولة بـ«الجمهورية العربية السورية» لم تكن مسألة رمزية فحسب، بل عكست توجهًا أيديولوجيًا سعى إلى اختزال الهوية الوطنية في بعدٍ قومي واحد، متجاهلًا حقيقة أن سوريا كانت عبر تاريخها فضاءً لتعدد القوميات والثقافات. وقد أدى هذا النهج إلى إنكار الوجود التاريخي للشعب الكوردي، الذي يُعد من أقدم شعوب المنطقة، وحرمانه من الاعتراف الدستوري بهويته القومية وحقوقه السياسية والثقافية، بما في ذلك حقه في تقرير مصيره ضمن الأطر القانونية والدستورية المعترف بها دوليًا.
ولم يقتصر هذا الإقصاء على الكورد وحدهم، بل شمل مكونات سورية أخرى، كالدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والإيزيديين والسريان والكلدان والآشوريين، الذين لم يُعترف بحقوقهم الجماعية ولا بخصوصياتهم الثقافية والاجتماعية ضمن بنية الدولة. وقد أسهم هذا التهميش المنهجي في إضعاف الثقة بين المجتمع والدولة، وأدّى إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وتراكم مظالم تاريخية ما زالت آثارها حاضرة حتى اليوم.
وتجسّد الحالة السورية بوضوح المفارقة بين الشكل والمضمون؛ إذ بينما حرصت السلطات المتعاقبة على تقديم صورة خارجية لدولة موحدة ومستقرة، كان الواقع الداخلي يشهد تدهورًا متواصلًا في بنية الحكم، وفسادًا مؤسسيًا، وانتهاكًا ممنهجًا للحقوق والحريات. وفي المرحلة الراهنة، تواصل الحكومة السورية المؤقتة هذا النهج عبر السعي لاسترضاء قوى إقليمية، وعلى رأسها تركيا، وتقديم تنازلات سياسية تمس جوهر المصالح الوطنية، وذلك على حساب الداخل السوري، ولا سيما على حساب الشعب الكوردي الأصيل، في تجاهلٍ لمعاناته التاريخية وحقوقه المشروعة.
وعلى الصعيد السياسي والاجتماعي، لا تزال الحكومة الانتقالية ترفض الانخراط في حوار وطني شامل وجاد مع شعوب ومكونات المجتمع السوري كافة، بما في ذلك الكورد، والعلويين، والدروز، والمسيحيين، والإيزيديين. وبدلًا من تبني مقاربة تشاركية قائمة على الاعتراف المتبادل والعدالة، تستمر في انتهاج سياسات إقصاء وتهميش تتعارض مع مبادئ الديمقراطية، وتنتهك القيم الإنسانية، وتخالف أحكام القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إن أي حل مستدام للأزمة السورية يظل مرهونًا بإعادة بناء الدولة على أساس عقد اجتماعي جامع جديد، يُترجم دستوريًا في نصوص واضحة تضمن المواطنة المتساوية، وتعترف بالتعدد القومي والديني والثقافي، وتحمي الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية لجميع مكونات (المجتمع) السوري من الكورد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والكدان والسريان والآشوريين والأيزيديين والمسيحيين دون استثناء. فالدستور العادل ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو التعبير الأسمى عن كرامة الإنسان، وضمانة للاستقرار، وأساس لوحدة سوريا على أسس ديمقراطية وإنسانية حقيقية.