بدران مستو
شكل إسقاط النظام الدموي السوري حدثاً تاريخياً فارقاً في حياة السوريين، إذ خرجت الجماهير بمختلف مكوناتها السياسية والإثنية والدينية إلى الساحات، محتفلةً بانتهاء واحد وستين عاماً من القمع والاستبداد، وسياسات التمييز والمشاريع العنصرية التي أنهكت البلاد ومزقت نسيجها الاجتماعي، كان ذلك اليوم بداية لتحقيق حلم طال انتظاره يتجسد ببناء دولة ديمقراطية لا مركزية، يسودها العدل والحرية والكرامة، وتُصان فيها الحقوق المشروعة للشعب الكردي وسائر المكونات، لكن سرعان ما تبدّد هذا الأمل، فبدلاً من أن تُفتح أبواب الحوار والمشاركة، بقيت البلاد تُقاد مجدداً من لون واحد ممثلاً هذه المرة بهيئة تحرير الشام والموالين لها، حيث اختُزلت الشرعية في السيطرة العسكرية، وأُقصي الشعب السوري بمختلف مكوناته عن المشاركة في صياغة مستقبلهم.
مضى عام على إسقاط الأسد، غير أن النظام لم يسقط، إذ تبدّلت الوجوه والأدوات، فيما بقيت السياسات على حالها في كل المناحي، حيث لازالت ممهورة بصبغة النظام البائد، ابتداءً من مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحقوق المشروعة للشعب الكردي وباقي المكونات، مروراً بالأوضاع الأمنية، ووصولاً إلى المناحي الاقتصادية:
- فكلمة الديمقراطية ما زالت غائبة عن خطاب مسؤولي السلطة في دمشق، لحساباتهم السياسية والأيديولوجية، تجنباً الالتزام بمطالب التغيير الجذري الداخلية، وتهرباً من ضغط المجتمع الدولي لبناء مؤسسات انتخابية حقيقية، وهذا ما لمسناه من ممارسات السلطة على الأرض، وكيفية بنائها لمؤسساتها الصورية، أما مسالة حقوق الإنسان فلا زالت الانتهاكات الإنسانية مستمرة على كافة مناطق سيطرتها، بما فيها المناطق الخاضعة للنفوذ والاحتلال التركي في الشمال، كما أن حقوق المكونات فقد عبر عنها رئيس المرحلة المؤقتة أحمد الشرع في منتدى الدوحة الأخير بقوله: “إن سوريا هي دولة قانون والقانون هو الذي يحكمها والذي يحافظ ويصون حقوق الجميع .. حاولنا أن نثبت مبدأ الشراكة للجميع وليس المحاصصة على أن تكون بعض الوزارات هي من حصة الطائفة الفلانية أو العرق الفلاني ولكن حوّلنا هذا الأمر إلى مبدأ التشاركية تجنباً لما حدث في العراق” ويقوم مبدأ التشاركية لديه على اختيار أفراد من المكونات الأخرى ممن يوالونه أو يشاركونه الانتماء الإيديولوجي والتنظيمي، لا على أساس الكفاءة والخبرة، ولا عبر القبول بتثبيت الممثلين الحقيقيين لمختلف المكونات بعد اعتماد لغة الحوار، والتوصل إلى توافقات حول القضايا الجوهرية بمستقبل الحكم في البلاد.
- الأوضاع الأمنية: لقد تحوّل الوضع الأمني في البلاد إلى أكثر هشاشةً، نتيجة اعتماد السلطة المؤقتة العنف واستخدام القوة العسكرية لفرض واقع سياسي أحادي الهوية، ذي صبغة طائفية واضحة، هذا النهج أدى إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وارتكاب جرائم تطهير طائفي بحق أبناء الطائفتين العلوية والدرزية راح ضحيتها الآلاف من الضحايا، كما استمر الفلتان الأمني في أشكال القتل والاختطاف والسلب والنهب والاعتداء على الممتلكات الخاصة، فيما ساهم الخطاب الإعلامي التحريضي الصادر عن السلطة المؤقتة ومطبليها في تعميق الانقسام الاجتماعي وإذكاء مشاعر الحقد والكراهية بين مكونات الشعب السوري.
- الأوضاع الاقتصادية: يشكل عدم الاستقرار السياسي والأمني، وسيف العقوبات المجمد بشروط، وتقسيم البلاد إلى عدة مناطق نفوذ، وانهيار البنية التحتية، وكذلك النقص في السيولة العامة, عوامل أساسية كابحة للنمو الاقتصادي. الحكومة المؤقتة تتحدث عن إنجازات واستثمارات، لكنها في الحقيقة ما هي إلا إنجازات محدودة، وتبرعات محلية، ورواتب مؤمّنة من قطر، واستثمارات وهمية لا وجود لها على أرض الواقع، مما يساهم في تفاقم تداعيات الأزمة الاقتصادية لتلقي بظلالها الكارثية على الواقع المعيشي للمواطنين، من حيث التضخم الاقتصادي وارتفاع الأسعار، وضعف القدرة الشرائية، واتساع فجوة البطالة التي قد تصل إلى 23%، وانعدام فرص العمل، إضافة إلى ما يقارب 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، الأمر الذي يعكس حجم المأساة الإنسانية والاجتماعية.
إن السلطة السورية المؤقتة، بما تنتهجه من سياسات طائفية إقصائية، وبما تمارسه من إجحاف في التعامل مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمكونات الوطنية، تتحمّل المسؤولية الكاملة عن إطالة مأساة ومعاناة الشعب السوري عاماً آخر. وبالتالي فهي مدعوة إلى إدراك أن المضي في هذا المسار لن يقود إلا إلى طريق مسدود، وإلى مواجهة حتمية مع المجتمع الدولي، وعليه فإن الفرصة الأخيرة أمامها تكمن في مراجعة ذاتها وتصويب سياساتها، والانفتاح على الداخل السوري، والقيام بإصلاحات داخلية جادة، والالتزام بتنفيذ بنود قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2799 الصادر تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يتيح مراجعات دورية للتأكد من حسن سير التنفيذ، وإلا ستكون السلطة المؤقتة عرضة لإجراءات تنفيذية في حال الإخلال، بما في ذلك إعادة النظر في الأسماء المرفوعة من قوائم العقوبات المرتبطة بداعش والقاعدة أو إضافة أخرى وفقاً للتطورات في المشهد السوري.