عزالدين ملا
تمرُّ سوريا في مرحلة تاريخية فريدة من نوعها، حيث تتداخل فيها العديد من العوامل الداخلية والخارجية، وتتشابك فيها مصالح الدول والأطراف المختلفة، مما يجعل مستقبلها مرهوناً بقدرتها على التعامل مع هذه التحديات بمرونة وذكاء. فبعد سنوات طويلة من الصراع والدمار، باتت البلاد على أعتاب مرحلة جديدة تتطلب رؤى استراتيجية واضحة، واستراتيجيات مَرِنة تواكبُ التغيرات، وتتعامل مع كل الاحتمالات، سواء أكانت إيجابية أم سلبية.
على الصعيد السياسي، لم تعد سوريا مجرّد دولة تقف على مفترق طرق، بل تحولت إلى ساحة نزاعات إقليمية ودولية، حيث تتصارع فيها المصالح، وتتداخل فيها الأدوار، مما يفرض على نظامها السياسي أن يتكيف مع واقع معقد، ويبحث عن توازن دقيق يضمن له استمرارية السلطة، وفي الوقت ذاته يفتح الباب أمام إصلاحات جذرية تعبّر عن تطلُّعات الشعب وتحقق المصالحة الوطنية. فهناك جهود حثيثة من قبل الحكومة السورية لتطبيع العلاقات مع القوى الكبرى، خاصة مع الغرب.
زيارة الرئيس السوري إلى واشنطن، رغم رمزيتها، كانت بمثابة رسالة واضحة أن سوريا تسعى لاستعادة وضعها الطبيعي على الساحة الدولية، وأنها لا تريد أن تظلَّ رهينةً لعقود من العزلة، أو أن تظل في حالة من الجمود السياسي. لكن، نجاح هذا المسار يعتمد على إقناع المجتمع الدولي أن دمشق جادّة في تنفيذ الإصلاحات الضرورية، مثل احترام حقوق الإنسان، ووقف ممارسات القمع، وتوفير بيئة مناسبة للانتقال السياسي، وهو أمر يتطلب تفاعلاً داخلياً حقيقياً، وليس مجرد مراوغات دبلوماسية. فالدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تراقب عن كثب مدى التزام دمشق بهذه الشروط، وتبحث عن ضمانات حقيقية قبل أن تتخذ خطوات عملية في اتجاه تطبيع العلاقات.
أما على مستوى المنطقة، فإن تداخُل المصالح وتحالفات القوى الإقليمية جعلت من سوريا ساحة للنفوذ، حيث تحاول كلٌّ من تركيا، إيران، ودول الخليج توظيف الفرص لتعزيز نفوذها، سواء عبر دعم فصائل مسلحة، أو عبر استثمارات اقتصادية، أو عبر دعم سياسات أمنية تلبي مصالحها. فتركيا تسعى إلى تعزيز نفوذها في الشمال، وفرض سيطرتها على مناطق ذات غالبية كوردية، أما دول الخليج، فهي تحاول أن تفرض حضورها من خلال دعم مشاريع إعادة الإعمار، والضغط من أجل تحقيق استقرار سياسي، وتوفير دعم مالي واقتصادي لمشاريع التنمية.
هذه التوازنات الجديدة تفتح آفاقاً جديدة، لكنها بالمقابل تحمل مخاطر كبيرة. فاستمرار النزاعات بين الأطراف، أو انفجار نزاعات إقليمية مباشرة، قد يؤدّي إلى تدهور الأوضاع بشكل سريع، وعودة العنف إلى الواجهة، مع استمرار معاناة السكان، وتفاقم الأوضاع الإنسانية، وتفتيت البلاد بشكل أكبر. لذلك، فإن سوريا بحاجة إلى استثمار دبلوماسي كبير، ومرونة في التعامل مع جميع الأطراف، لضمان أن يكون الحوار هو الخيار الأول، وأن يتم العمل على تهيئة بيئة سياسية وأمنية مستقرة تساعد على الانتقال نحو مرحلة جديدة من البناء والاستقرار.
فيما يخصُّ التحديّات الداخلية، فهي تمثل العقبة الأكبر أمام استقرار البلاد. إذ يعاني المجتمع السوري من انقسامات عميقة، تتعلق بالهوية والانتماء والمصالح، إضافة إلى وجود نزاعات على السلطة، وغياب الثقة بين مكوّنات الشعب والنظام. خاصة الكورد، تُعدُّ من أبرز الملفات التي تتطلب معالجة حكيمة، والتعامُل معها بمسؤولية عالية، لضمان وحدة البلاد، ومنع تفاقُم النزاعات. فالتهميش أو الإقصاء قد يؤدّي إلى تصدُّع الوحدة الوطنية، ويهدّد فكرة الدولة، ويشجّع على نزعات الانفصال أو التمرُّد. لذلك، فإن الحل يكمن في الاعتراف الدستوري بحقوق هذه المكونات، ومنحها انفتاحاً سياسياً موسعاً، وإشراكها في العملية السياسية بشكل فعال، لضمان مشاركة الجميع، وإشاعة مناخ من التوافق والتعايش السلمي.
أما فيما يخص الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية، فهي تعدُّ الأساس لأي عملية انتقال سياسي حقيقي. الإصلاحات المطلوبة ليست سطحية بل جذرية، تشمل تفكيك المركزية المفرطة، وتوسيع صلاحيات المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وضمان استقلالية القضاء، ورفع مستوى الحريات العامة، مع ضمان مشاركة فاعلة لجميع فئات المجتمع، من أجل بناء دولة قانون ومؤسسات حديثة. فالدستور هو العقد الذي يحدّد قواعد الحكم، وهو الضامن لشرعية النظام، ومفتاح لتحقيق التوازن بين السلطات، ووسيلة لضمان المشاركة السياسية، وتوفير بيئة مناسبة للمصالحة الوطنية، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والنظام.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن آثار الحرب الطويلة لا تزال واضحة. فالبنية التحتية مدمرة، وقطاعات الإنتاج والخدمات تعاني من تدهور حاد، وفقدان وظائف، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مع تراجُعٍ كبيرٍ في مستويات المعيشة. لذلك، فإن عملية إعادة الإعمار ليست مجرّد مشروع تنموي، بل هي استحقاق وطني، يتطلب استثمارات ضخمة، ودعم دولي وإصلاحات إدارية ومالية عميقة. مشاريع إعادة الإعمار تحتاج إلى بيئة آمنة، وتحفيز القطاع الخاص، وتسهيل دخول الشركات الأجنبية، وتطوير القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية بشكل متوازن. التعاون مع المؤسسات الدولية، وبنوك التنمية، والجهات المانحة، يعتبر عنصراً حاسماً في تمويل هذه المرحلة، وتوفير الشفافية، وضمان أن تكون إعادة الإعمار وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة، وليس فقط ترميم المباني.
في الوقت ذاته، فإن تحسين مناخ الأعمال، وتسهيل الإجراءات الإدارية، وتفعيل قوانين الاستثمار وشفافية المؤسسات، من شأنه أن يعزّز ثقة المستثمرين، ويشجّع على تنويع الاقتصاد، وتقليل الاعتماد على الموارد المحدودة خاصة النفط، الذي تراجعت عائداته بشكل كبير. كذلك، فإن التفاعل بين الإصلاحات الداخلية والانفتاح الخارجي هو أحد أصعب التحديات، حيث أن بدون بيئة داخلية مستقرة ومؤسسات فعالة وبيئة ديمقراطية، فإن أي دعم خارجي سيكون محدوداً وقابلًا للتراجع مع تدهور الأوضاع. لذلك، فإن النجاح يتوقّف على بناء مؤسسات قوية، وإصلاح النظام القانوني، وتعزيز الحقوق والحريات، وتحقيق التوازن بين السلطات، لضمان استقرار داخلي يدعم جهود التعاون الدولي.
أما الدعم الخارجي، فهو عنصر حاسم في تسريع عملية إعادة الإعمار والتنمية، من خلال التمويل وتسهيل دخول الشركات الأجنبية وتقديم الخبرات والتقنيات الحديثة وتطوير القدرات المؤسسية. كلُّ هذه العوامل تُسرّع من وتيرة البناء، وتوفر فرصاً لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، قادرة على تلبية تطلُّعات الشعب، وتحقيق حياة كريمة، في ظل بيئة آمنة ومستقرة.
أما عن السيناريوهات المحتملة، فهي تتنوّع بين النجاح الكامل، حيث تتبنى سوريا إصلاحات جذرية، وتحقق توافقاً وطنياً، وتستعيد استقرارها، وتلعب دوراً إقليمياً ودولياً فاعلاً، إلى السيناريو الأسوأ، الذي يتّسم بالانتكاسات المتكرّرة، وتفاقم النزاعات، وتدهور الأوضاع الإنسانية، وربما انهيار كامل للدولة، مع ظهور كيانات متمرّدة، وانتشار الفوضى، وتوسّع التدخلات الإقليمية والدولية، مما يعقد المشهد ويهدد وحدة البلاد بشكل كبير.
في النهاية، يبقى مستقبل سوريا مرهوناً بمدى قدرتها على استثمار الفرص المتاحة، وتجاوز العقبات، والعمل بجدية على بناء توافق وطني شامل، مع دعم دولي فعال وإرادة سياسية حازمة وتضحيات كبيرة ومرونة عالية في التعامل مع التحديات. النجاح هو أن تنظر سوريا إلى مصلحتها الوطنية العليا، وتتبنى خطوات جريئة، تضمنُ بناءَ دولة حديثة وموحدة ومستقرة ومتقدمة تلبي تطلعات شعبها، وتتصدر المشهد الإقليمي بشكل إيجابي. أما إذا تخلت عن هذا المسار فإنها ستظل في دوامة من الأزمات والصراعات التي قد تؤدي إلى كارثة إنسانية وأمنية يصعب تصور نتائجها، وتجاوزها قد يكون مستحيلاً في ظلّ الواقع المعقّد والمُتغيّر الذي تعيشه.