صلاح عمر
في الرابع من كانون الأول 2025، لم يكن ما جرى تحت قبّة البرلمان التركي مجرّد جلسة عادية، ولا عرضًا سياسيًا بروتوكوليًا عابرًا. كان يومًا ثقيلاً في الذاكرة الكردية، يومًا قدّمت فيه وثيقة سياسية باردة في ظاهرها، ملتهبة في جوهرها، تُمهّد – بلا مواربة – لمرحلة جديدة عنوانها: تصفية القضية الكردية باسم “السلام”.
التقرير الرسمي الذي قدّمه رئيس البرلمان التركي نعمان كورتولموش، وتلاه نائب الأمين العام أحمد بوزقورت، بوصفه ملخّص محضر وفد إمرالي بعد زيارته في 24 تشرين الثاني 2025، لم يترك مساحة للشك أو التأويل. فقد جاء واضحًا وصريحًا حدّ الصدمة:
لا دولة.
لا فيدرالية.
لا كونفدرالية.
لا لغة كردية رسمية.
لا نقاش دستوري.
لا حكم ذاتي، ولا حتى اعتراف سياسي صريح بالهوية القومية.
كل ما سُمح للكرد به اختُزل بعبارة مطاطية مراوغة:
“الاندماج ضمن المعايير الديمقراطية المتقدّمة”.
أي أن يُطلب من شعبٍ ضارب في عمق هذه الجغرافيا منذ آلاف السنين أن يخلع هويته على عتبة الدولة، ويدخل كمواطنٍ بلا قضية، بلا ذاكرة، بلا أفق قومي، وبلا حق تقرير مصير.
هنا لا نتحدث عن حل سياسي… هنا نتحدث عن تصفية ناعمة بربطة عنق، وباسم السلام.
نزع السلاح بلا حقوق… ليس سلامًا بل إعدام سياسي
حين يُطلب من حركة مسلّحة أن تفكّك بنيتها التنظيميةوالعسكرية، وتُلقي سلاحها، وتُنهي كل أدوات قوّتها، ثم لا يُمنح في المقابل:
لا اعتراف دستوري،
لا كيان سياسي،
لا إدارة معترف بها،
لا ضمانات دولية،
ولا حتى حماية صريحة للغة والهوية…
فهذا ليس انتقالًا إلى السلام، بل انتقال إلى الذبح السياسي البطيء.
السلام لا يُبنى على الركوع، ولا على تجريد الشعوب من أدوات الدفاع عن وجودها، ولا على تحويل قضية أمة إلى ملف أمني – إداري في أدراج البيروقراطية.
السلام الذي لا يحمي الحقوق، ليس سلامًا… بل هدنة قبل جولة إنكار أشدّ قسوة.
ما يُطبخ في أنقرة سيُفرَض غدًا على روج آفاي كردستان.
الخطر الأكبر لا يكمن فقط في مضمون التقرير، بل في تصديره كنموذج إلزامي إلى باقي أجزاء كردستان، وعلى رأسها كردستان سوريا.
كل تنازل يُمرَّر هناك، سيُسوَّق هنا بوصفه: “واقعية سياسية”، “ضرورة مرحلية”، “تكيّف مع توازنات الإقليم”.
إذا صمتوا عن اللغة هناك، سيُطلب منا الصمت عنها هنا.
إذا تخلّوا عن الكيان هناك، سيُطلب منا تفريغ الإدارة هنا.
إذا قُيّدت مطالبهم هناك، فستُجرَّم مطالبنا هنا.
إمرالي اليوم ليست جزيرة معزولة… إنها مختبر سياسي يُصاغ فيه نموذج “الكردي المقبول” إقليميًا: كردي بلا سلاح، بلا كيان، بلا سيادة، وبلا مشروع قومي.
اتفاق 10 آذار… متى يتحوّل الإنجاز إلى فراغ؟
الإشارة الواضحة في التقرير إلى اعتماد اتفاق 10 آذار في سوريا، مع نفي أي قوة دفاع محلية سوى “الأسايش” بوصفها شرطة، ليست مسألة تقنية.
إنها رسالة سياسية شديدة الخطورة:
هل يُراد لقوات سوريا الديمقراطية أن تتحوّل من قوة حماية شعب إلى جهاز أمني محلي بلا عمق سياسي؟
هل يُراد للإدارة الذاتية أن تبقى بلا اعتراف دستوري، بلا شراكة سيادية، وبلا مظلة قانونية دولية؟
إذا صحّ هذا المسار، فنحن لا نكون أمام تعديل سياسي… بل عملية تفريغ شاملة لكل منجزات روجآفاي كردستان من مضمونها التحرّري.
“الأخوة التاريخية”… حين تتحوّل إلى غطاء للهيمنة
استُعيد مجددًا خطاب “الأخوة التركية – الكردية”، واستُدعيت الرموز التاريخية لتغليف هذا التراجع الكبير.
لكن الحقيقة التي لا يريدون قولها:
الأخوة التي لا تقوم على الشراكة هي تبعية مقنّعة، والسلام الذي لا يقوم على الحقوق هو استسلام مؤقت.
ماذا يُراد للكرد اليوم؟
يُراد لهم ببساطة أن:
يتخلّوا عن السلاح،
يتخلّوا عن الكيان،
يتخلّوا عن اللغة،
يتخلّوا عن المشروع القومي…
ثم يُمنحوا في المقابل “وعدًا بالأمن” داخل دولة لم تعترف بهم يومًا إلا كملف أمني.
هذه ليست تسوية.
هذه إعادة إنتاج للإنكار بأدوات ناعمة بدل السجون والدبابات.
تحذير مباشر للأحزاب الكردية في سوريا: لحظة الحقيقة لا تحتمل الرماديات
ومن هنا، يأتي التحذير الموجَّه للأحزاب الكردية في كردستان سوريا: إن أي خطوة خارج الإطار الشرعي أو المفاوضات الجماعية ليست مجرد خطأ تكتيكي، بل انزلاق نحو كارثة سياسية وأخلاقية كاملة.
أي حزب كردي يفكّر اليوم في التساهل، أو في القفز إلى ضفة الموالاة لسلطة دمشق قبل أن ينتزع الحقوق القومية المشروعة لشعبه، لا يرتكب مجرد خطأ سياسي، بل يقترف خطيئة أخلاقية وتاريخية كبرى.
التاريخ لا يرحم المنبطحين، ولا يغفر لمن يبيع مستقبل الأمة مقابل فتات المناصب ومنافع عابرة سرعان ما تتحول إلى عار دائم.
إن أي لقاء، أي تفاوض، أي تنازل يتم خارج إطار لجنة التفاوض المنبثقة عن كونفرانس 26 نيسان 2025 هو خيانة صريحة للدماء التي سُفكت، وطعنة في ظهر التضحيات، وتجَنٍّ فادح على حقوق شعب كامل لا يملك ترف التفاوض بالنيابة عنه أحد.
هنا يجب أن تُرسَم الحدود بلا تردّد:
لا مفاوضات خارج الشرعية الكردية،
لا صفقات فردية،
لا عبور إلى دمشق بلا حقوق دستورية مكتوبة ومضمونة.
مهما كانت الإغراءات، ومهما اشتدت التهديدات…
فالصمت اليوم نكسة غدًا، والانصياع لا يعني “الواقعية” بل الانكسار.
ومن يراهن على الوقت لتمرير التنازل، فليعلم أن الشعب الكردي قد يصبر… لكنه لا ينسى، ولا يوقّع على بياض، ولا يمنح الخيانة صكّ الغفران.
الخلاصة بلا أقنعة
ما عُرض في البرلمان التركي في 4 كانون الأول 2025 ليس “تقدمًا في مسار الحل”، بل تراجعًا تاريخيًا عن جوهر القضية الكردية.
سلام بلا حقوق = استسلام.
مسار بلا ضمانات = مقامرة بمصير أمة.
وصمت النخب اليوم = شراكة كاملة في الكارثة القادمة.
نعم، نريد السلام…
لكن السلام الذي يحفظ الكرامة، لا الذي يدفن القضية.
نريد نهاية للحرب…
لكن لا نريد نهاية للحق الكردي.