ادريس عمر
شكّلت اللحظة التي انهار فيها نظام بشار الأسد حدثاً تاريخياً انتظرهالسوريون أكثر من نصف قرن. فالنظام الذي حكم سوريا بالحديد والنار،وجرّ البلاد إلى قمعٍ ممنهج ودمارٍ شامل، بدا لسنوات وكأنه باقٍ إلى الأبدبفضل دعمه من روسيا وإيران وحزب الله. ومع ذلك، جاءت لحظة غير متوقعةقلبت المعادلات، وانتهت بهروب رأس النظام وانهيار المركز الأمني الذي كانيمسك برقاب السوريين منذ عقود.
عمّت الاحتفالات المدن السورية، فتحت السجون، وبدأت تتكشف طبقاتجديدة من الحقيقة حول حجم الجرائم التي ارتُكبت بحق المعتقلين والمختفينقسراً. شعر السوريون، لأول مرة منذ زمن بعيد، بأن الهواء يمكن أن يُتنفسبلا خوف، وبأن التاريخ يمنحهم فرصة ثانية لبناء وطنهم على قيم الحريةوالكرامة.
لكن ما بدا بدايةً مشرقة سرعان ما تحوّل إلى مصدر قلق عميق. فالسلطةالجديدة التي قدّمت نفسها بوصفها منقذةً للوطن، بدأت خطواتها بخطابٍمنمّق حول الوحدة الوطنية، والمساواة، وتشكيل مؤتمر يضم جميع المكوناتالسورية، ولجنة لصياغة الدستور. غير أن الممارسة سرعان ما تناقضت معالوعود.
تراجع الوعود وصعود عقلية الغلبة
لقد اتضحت ملامح الإقصاء في أولى مراحل العمل السياسي:
-فالمؤتمر الوطني لم يكن جامعاً، بل أداة انتقاء لموالين جدد يكرّسون السلطة،لا لبناء الشراكة الوطنية.
-ورُوّج لمنطق “من حرّر يقرّر”، وهو منطق يُعيد البلاد إلى شرعية القوة بدلشرعية التوافق.
-وشهد الساحل والسويداء أحداثاً دموية استهدفت مكوّنات اجتماعيةارتبطت بالنظام السابق، في خطوة غذّت الأحقاد بدل معالجة جروحالماضي.
-وتصاعد خطاب التهديد ضد الشعب الكردي رغم الاتفاقات المبرمة، ماكشف هشاشة الرؤية الوطنية الشاملة.
بهذا كله، وجد السوريون أنفسهم أمام سلطة جديدة تستعيد آليات الإقصاءذاتها، وإن ارتدت خطاباً مختلفاً.
مرحلة انتقالية مؤجلة… ودولة لم تولد بعد
أعلنت السلطة الجديدة فترة انتقالية مدتها خمس سنوات تتعهد خلالهابإعادة ترتيب أوضاع البلاد وصياغة دستور وإجراء انتخابات. غير أن الواقعكشف أنّ:
– الحكم المركزي لا يزال سيد الموقف، وهو ذات النموذج الذي أنتج الكارثةالوطنية في العقود الماضية.
– الخبرات الوطنية غُيّبت، وحلّ محلّها أفراد يفتقرون إلى التجربة والرؤية، مماعطّل عملية البناء.
– مصطلح الديمقراطية لم يجد طريقه إلى خطاب السلطة، وكأن البلادخرجت من استبدادٍ لتقع في شرك استبداد آخر.
-الاهتمام انصرف نحو الدبلوماسية الخارجية وإعادة العلاقات مع العالم- من السعودية وقطر إلى الولايات المتحدة ودول أوروبا—بينما تُرك الداخلالسوري غارقاً في الفقر والانقسام والتهميش والمجازر.
إنّ دولة تعاني من آثار حرب مدمّرة لا يمكن أن تبنى بالخطب والمواثيقوحدها، ولا بالإقصاء ولا بمنطق السيطرة، بل تحتاج إلى رؤية وطنية تُعليقيمة المشاركة والمواطنة فوق كل اعتبار.
إخفاق الرؤية قبل إخفاق الأداء
تكمن المشكلة الجوهرية في غياب مشروع حقيقي لبناء سوريا الجديدة،وليس في ضعف الإدارة فحسب.
فالدولة التي يريدها السوريون اليوم هي:
– دولة لا مركزية تراعي تنوع البلاد وتوزعها الاجتماعي والجغرافي.
-دولة مواطنة لا تُميّز بين أبنائها على أساس الدين أو القومية أو الماضيالسياسي.
-دولة قانون ومؤسسات، لا دولة أفراد ولا مراكز نفوذ.
-دولة مصالحة وطنية تعالج جراح الماضي بدلاً من إعادة فتحها.
السوريون الذين دفعوا ثمناً باهظاً على مدى أربعة عشر عاماً لا يتحملونمزيداً من التهجير والويلات. هم اليوم أكثر حاجة من أي وقت مضى إلى دولةتستجيب لمعاناتهم، لا دولة تزيد من أعبائهم.
خاتمة: هل نتعلم من التاريخ أم نعيده؟
إن سقوط النظام السابق لم يكن نهاية المأساة، بل بداية الاختبار الحقيقيلمستقبل سوريا.
ويبقى السؤال الجوهري:
هل ستنجح السلطة الجديدة في بناء دولة تنتمي إلى ما بعد الثورة، أم أنهاستكتفي بإعادة إنتاج نموذج الاستبداد بوجوه جديدة؟
إن مستقبل سوريا مرهون بقدرتها على تبني رؤية سياسية تستند إلىالتوافق، والعدالة، والمشاركة، واللامركزية، واحترام التنوع. فالشعب السوريالذي صمد طويلاً يستحق أكثر من تناوب الأنظمة على حكمه؛ يستحق دولةتليق بتضحياته، وتضمن كرامته، وتفتح أمامه باب الحياة الكريمة التي حُرممنها لعقود.