ماهين شيخاني
مقدمة
يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك أدواراً وسلوكيات مختلفة تساهم بدرجات متفاوتة في تشكيل الواقع الراهن.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم مقاربة محايدة لتأثير هذه الأطراف، بعيداً عن خطاب الإدانة أو التبرير، مع التركيز على تحليل البُنى، والسلوك السياسي، والنتائج المترتّبة على ذلك.
أولاً: الجماعات المتطرفة – تهديد بنيوي للتنوع والاستقرار
رغم تراجع نفوذ الجماعات المتطرفة في أجزاء واسعة من سوريا، إلا أن آثار ممارساتها ما تزال حاضرة في الذاكرة المجتمعية وفي البنية الأمنية. وقد تحوّلت هذه الجماعات، في مراحل مختلفة، إلى عامل مؤثر في المناطق ذات الوجود الكوردي.
1. استهداف الهوية والمجتمع
اعتمدت بعض التنظيمات المتشددة سياسات تقوم على استهداف المدنيين تبعًا للهوية القومية أو الدينية، ما يهدد مبدأ التعايش الذي لطالما ميز منطقة الجزيرة السورية ومحيطها.
2. تأثيرات على المجال الثقافي
لم يقتصر نشاط هذه الجماعات على البعد الأمني؛ إذ تبنّت خطاباً يسعى إلى تقويض التعدد الثقافي، بما في ذلك الرموز واللغة والممارسات المرتبطة بالهوية الكوردية.
3. ارتباطات خارجية
ساهمت شبكات الدعم الإقليمي والدولي في تمكين هذه التنظيمات، مما أطال من أمد الصراع وخلق تحديات إضافية أمام المجتمعات المحلية في سعيها لإعادة بناء مؤسساتها المدنية والأمنية.
وعليه، يظهر أن تأثير الجماعات المتطرفة على الكورد جزء من سياق أوسع يطال جميع المكونات السورية، ويعدّ مؤشراً على هشاشة بيئة الأمن المحلي.
ثانياً: الإدارة الذاتية – تجربة سياسية في طور التشكّل
تشكل الإدارة الذاتية لروژآڤايي كوردستان أحد أبرز الفاعلين المنظمين ضمن مناطق التواجد الكوردي. ورغم أنها تقدم نموذجاً إدارياً جديداً نسبياً في السياق السوري، إلا أنها تواجه تحديات متعددة على مستويات الشرعية والحوكمة.
1. الإطار السياسي والتنظيمي
تسعى الإدارة الذاتية إلى تطبيق نموذج قائم على “الديمقراطية التشاركية”، إلا أن ممارسة هذا النموذج على أرض الواقع ما تزال محدودة بفعل عوامل عدة، منها البنية الحزبية المهيمنة، وغياب بيئة سياسية تعددية متوازنة.
2. تحديات بناء المؤسسات
برغم التطور النسبي في مجالات الخدمات، والبلديات، والتعليم، تواجه الإدارة صعوبات في بناء مؤسسات مستقلة وفعّالة، سواء بسبب الضغوط الأمنية أو القيود الاقتصادية أو طبيعة التحالفات الإقليمية.
3. التوازن بين الضرورات الأمنية والسياسية
أجبر السياق العسكري والإقليمي الإدارة على اتخاذ مواقف براغماتية في كثير من المحطات، ما أدى في بعض الأحيان إلى انتقادات تتعلق بالتذبذب السياسي أو تضييق المجال السياسي الداخلي.
وعلى ذلك، يمكن فهم تجربة الإدارة الذاتية بوصفها مشروعاً قيد التشكل، يضم جوانب إيجابية وأخرى تحتاج إلى مراجعة وتطوير.
ثالثاً: المجلس الكوردي – الأزمة التنظيمية وتراجع التأثير
يمثل المجلس الكوردي إطاراً سياسياً قديماً نسبياً مقارنة بالإدارة الذاتية، وهو جزء من خارطة المعارضة السورية. إلا أن دوره تأثر بمجموعة من العوامل التي حدّت من قدرته على تمثيل قطاع واسع من الكورد.
1. البنية التنظيمية
أظهرت التجربة العملية للمجلس محدودية في الفاعلية التنظيمية، ما انعكس على قدرته في اتخاذ مواقف مستقلة أو التأثير في المحافل السياسية.
2. الارتباطات الإقليمية
أثرت التحالفات الإقليمية والدولية على استقلال القرار السياسي للمجلس، وهو ما أثار نقاشات داخل الأوساط الكوردية حول مدى تمثيله الحقيقي للمطالب الكوردية.
3. غياب رؤية استراتيجية موحدة
تسبب عدم الاتفاق على رؤية مشتركة للقضية الكوردية، إضافة إلى الانقسامات الداخلية، في تراجع دور المجلس في المشهد السياسي.
وبناء على ذلك، تشير المعطيات إلى أن المجلس بحاجة إلى مراجعة داخلية شاملة تعزز من تماسكه وقدرته التمثيلية في المرحلة المقبلة.
رابعاً: انعكاسات تفاعل الأطراف الثلاثة على الواقع الكوردي
أدى التفاعل بين هذه القوى الثلاث إلى خلق بيئة سياسية متشابكة أسهمت في:
1. تعمق الانقسام الداخلي بين القوى الكوردية، ما أثر على قدرتها على التفاوض أو المشاركة الموحدة في الاستحقاقات الوطنية.
2. تباطؤ تحقيق المطالب القومية نتيجة غياب حامل سياسي موحد قادر على التفاوض أو ممارسة الضغط.
3. تعاظم دور الفاعلين الإقليميين والدوليين في توجيه مسار القضية الكوردية، سواء عبر الدعم أو الضغط أو إعادة تشكيل التحالفات.
هذه المؤشرات تعكس هشاشة البنية السياسية الكوردية وتعقيد السياق السوري الأوسع.
الخاتمة
تكشف هذه الدراسة أن التحديات التي تواجه الشعب الكوردي في سوريا ليست أحادية المصدر، بل ناتجة عن تفاعل أطراف متباينة تختلف في أهدافها وقدراتها. ورغم أن كلا من الجماعات المتطرفة والإدارة الذاتية والمجلس الكوردي يمتلك تأثيراً مباشراً، إلا أن تجاوز هذه المرحلة يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين القوى الكوردية ضمن إطار حوار جدي يهدف إلى:
بناء رؤية سياسية مشتركة تراعي خصوصية الواقع السوري وتطلعات الكورد.
تطوير مؤسسات شرعية وتمثيلية أكثر اتساقاً مع احتياجات المجتمع.
الحد من تأثير الأجندات الخارجية عبر تعزيز استقلالية القرار السياسي.
إن مستقبل القضية الكوردية يرتبط إلى حد كبير بقدرة الفاعلين على توحيد الموقف السياسي وبناء مقاربة جديدة تتجاوز أخطاء المرحلة الماضية، وتضع الأسس لعمل سياسي مستدام وواقعي.