عبد الرحمن حبش
في منطقة تمره بالصراعات وتعج بالتناقضات، يبرز الرئيس مسعود بارزاني بوصفه أحد القلائل الذين نجحوا في لعب دور مركّب قائد قومي، وشريك سياسي إقليمي، ووسيط سلام يحظى بثقة الأطراف المتخاصمة، مع قدرة نادرة على الجمع بين الواقعية السياسية والبعد الوطني. لقد تحوّل الرجل خلال العقدين الأخيرين إلى ما يمكن وصفه بصانع التوازنات الإقليمية، ليس فقط بفعل موقعه، بل بفضل شبكة علاقاته وخبرته الطويلة في إدارة التوازنات الحسّاسة في العراق وسوريا وتركيا.
يظهر هذا الدور بوضوح في المبادرات التي أطلقها أو دعمها، خصوصًا تلك التي تجمع أطرافًا متباعدة لا تسمح الظروف السياسية لها بالالتقاء تحت سقف واحد. ولعل منتدى ميس للسلام في دهوك أحد أبرز هذه المظاهر. هذا الملتقى الذي جمع قادة سياسيين وقادة ميدانيين وخبراء دوليين، لم يكن حدثًا بروتوكوليًا، بل منصة غير معلنة لإعادة اختبار المساحات المشتركة بين القوى المتنافرة. كان حضور مظلوم عبدي، وعدد من الشخصيات العراقية والتركية والدولية، إشارة إلى أن دهوك باتت مساحة محايدة يُمكن فيها استكشاف آفاق جديدة للحوار. وجود مثل هذه الشخصيات في مدينة دهوك كوردستانية لا يحدث صدفة، بل يعكس مكانة بارزاني كضامن غير معلن للحوار، وقادر على إدارة الملفات الحساسة ببرودة أعصاب واستبصار واقعي.
لقد أثبتت التجربة أنّ بارزاني يمتلك قدرة فريدة على تخفيف حدّة الخلافات العراقية–العراقية التي غالبًا ما تتغذّى على الانقسام الطائفي والسياسي. فكم من مبادرة سياسية خرجت من هولير لإعادة وصل ما انقطع بين الأطراف المتخاصمة في بغداد، وخاصة خلال الأزمات الحكومية أو الانسدادات الدستورية. ومع أنّ بارزاني ليس طرفًا مباشرًا في تلك الخلافات، إلا أنّ قيادته لعبت دور العقل البارد الذي يمكنه جمع من لا يجتمعون. هذه القدرة ليست جديدة فهي امتداد لمسار طويل منذ 2003 حين تبنّت قيادة كوردستان سياسة الشراكة بدل القطيعة محوّلة أربيل إلى نقطة توازن داخل العملية السياسية العراقية.
وفي السياق السوري، كان للرئيس بارزاني دور موازٍ، لكنه أكثر حساسية وتعقيدًا. فالمشهد الكوردي السوري يعج بالخصومات والانقسامات بين قوى المجلس الوطني الكردي والإدارة الذاتية وحزب العمال الكردستاني، وتداخلات الاستخبارات الإقليمية. وسط هذه البيئة، حافظ بارزاني على خط واضح دعم وحدة الصف الكوردي، ومنع انزلاق الخلافات إلى صراع دموي، وتشجيع الحوار بين المكوّنات السورية. وأمام الانقسامات الحادّة بين القيادات السورية، سواء في الائتلاف أو المجلس أو القيادة الميدانية، ساهمت مبادراته الهادئة في خلق مساحات مشتركة يمكن البناء عليها. وحتى حين تتصاعد التوترات، تُرسل هولير ودهوك رسائل تهدئة تسمح بعودة الاتصالات، وهو دور لا يمكن لقوة غير محايدة القيام به.
أما في تركيا، فإن مقاربة بارزاني للسلام تتخذ بُعدًا أكثر حساسية. فالعلاقة بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني واحدة من أعقد الملفات الإقليمية، حيث تتداخل فيها الجغرافيا والسياسة والأمن والهوية. ومع ذلك، كان الرئيس بارزاني أحد الأصوات التي حافظت على قنوات مفتوحة مع أنقرة ومع قيادات الحركة الكوردية في الوقت نفسه، دون أن يكون طرفًا في الصراع. لقد شهدت الفترات التي تراجع فيها مستوى الصراع بين الطرفين تقاطعات مهمة مع الدور غير المباشر الذي لعبه بارزاني، سواء عبر تشجيع وقف إطلاق النار، أو دعم مسار الحوار الذي انطلق قبل سنوات، أو من خلال إبقاء العلاقة مع تركيا على مستوى مستقر يسمح بإحياء فكرة السلام الممكن، حتى وإن بقي ذلك الطريق معقدًا وبطيئًا. ومن الواضح أن وجود دهوك كمنصة تجمع أطرافًا كوردية وإقليمية لا يحدث دون وجود ضمانات سياسية من القيادة الكوردستانية، وفي مقدمتها الرئيس بارزاني.
إنّ قراءة شاملة لهذا الدور تظهر أن الرئيس مسعود بارزاني استطاع أن يقدّم نموذجًا نادرًا قائد قومي لا ينعزل داخل قضيته، وزعيم كوردي لا يُختزل في الاصطفافات، وشريك يمكن الاعتماد عليه في لحظات الانهيار والشدّة. وهذا النموذج ليس مجرد سياسة لحظية، بل رؤية طويلة المدى ترى أنّ مستقبل الكورد لا يُبنى بالحروب المفتوحة، بل بالسلام القائم على القوة، وبالسياسة العابرة للحدود التي تفهم طبيعة المنطقة وتشابكاتها.
ومع تعاظم التحديات في العراق وسوريا وتركيا، تزداد الحاجة إلى هذا النوع من القيادة. فالرئيس مسعود بارزاني لا يطرح السلام كشعار، بل كاستراتيجية متكاملة تعيد التوازن وتمنح الأمل وتضمن بقاء القضية الكوردية في مسار سياسي واقعي وفاعل. ولهذا، فإن وصفه بصانع التوازنات الإقليمية وراعي مسار السلام الكوردي ليس توصيفًا إعلاميًا، بل خلاصة لمسار طويل أثبتته الوقائع مرارًا.