م. أحمد زيبار
تشكل سوريا نموذجاً معقّداً للدول الحديثة في الشرق الأوسط، حيث نشأت حدودها المعاصرة نتيجة الترتيبات الدولية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وتحديداً اتفاقية سايكس – بيكو التي رسمت الحدود وفق مصالح القوى الاستعمارية، وليس وفق ديناميات الاجتماع التاريخي والسياسي في المنطقة. وقد نتج عن ذلك دمج لمجتمعات متعددة القوميات والأديان والمذاهب في إطار كيان سياسي واحد، دون وجود عقد اجتماعي حقيقي بين مكوّناته.
نعم، لم تكن سوريا منذ تأسيسها دولة متجانسة من حيث البنية الثقافية والاجتماعية. فالمجتمع السوري يشمل جماعات عربية وكردية وتركمانية وسريانية، إضافة إلى تنوع مذهبي واسع يشمل السنّة والعلويين والدروز والإسماعيليين والمسيحيين بأطيافهم. وقد اختارت النخبة الحاكمة، منذ الاستقلال وحتى السنوات الأخيرة، التعامل مع هذا التنوع عبر آليات الاحتواء أو القمع، وليس من خلال بناء نظام تشاركي يسمح بتجسيد هذا التعدد في مؤسسات سياسية عادلة.
على مدى خمسين عاماً من حكم عائلة الأسد، ارتكز النظام السياسي على المركزية الصارمة، وسيطرة الأجهزة الأمنية، ومنطق الدولة الأيديولوجية التي تُعرّف نفسها بوصفها “دولة عربية” على الرغم من وجود قوميات غير عربية. وقد أدى هذا الواقع إلى تعميق الفجوة بين الدولة والمجتمع، وتحديداً لدى المكوّنات التي لا تنتمي إلى الهوية الرسمية للدولة.
والآن بعد أربعة عشر عاماً من الحرب، وسقوط النظام بعد نصف قرن من السلطة، تجد سوريا نفسها أمام مفترق تاريخي. ويمكن تحديد مسارين رئيسيين أو أكثر لفهم مستقبل الدولة السورية:
- مسار التفكك الجغرافي – السياسي: إذ يُطرح خيار إعادة تكوين كيانات سياسية جديدة تقوم على أسس الانسجام الاجتماعي والقومي، بحيث تُنشأ دول أو أقاليم مستقلة لكل مجموعة متجانسة، في إطار مسار أوسع يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط. ويستند أنصار هذا الخيار إلى فرضية أن وحدة سوريا شكلٌ قسري نتج عن إكراهٍ تاريخي، وأن تجاوز خرائط سايكس – بيكو قد يكون مدخلاً لتأسيس كيانات أكثر استقراراً.
- مسار الدولة اللامركزية التشاركية: يقوم هذا المسار على إعادة بناء الدولة السورية على أساس نظام ديمقراطي لا مركزي، يسمح لكل مكوّن اجتماعي وثقافي بإدارة شؤونه المحلية ضمن إطار سياسي موحد. تتضمن هذه الصيغة توزيعاً حقيقياً للسلطة، وضمانات دستورية لحقوق الجماعات، بما في ذلك الحق في التعليم والثقافة والتمثيل السياسي بلغاتهم وهوياتهم الخاصة. ويمكن أن يشكل هذا النموذج صيغة وسطية تمنع التفكك وتحقق العدالة التاريخية.
- مسار الدولة المركزية العربية – الإسلامية: يتمثل هذا المسار في إعادة إنتاج نموذج الدولة المركزية ذات الهوية الأحادية، عبر فرض تعريف عربي – إسلامي للدولة كهوية سياسية وثقافية وحيدة، دون الاعتراف الفعلي بالتعدد القومي أو الديني. يعتمد هذا الخيار على منطق الأغلبية العددية كمرجعية للشرعية السياسية، ويُبقي الغالبية الساحقة من الجماعات غير العربية أو غير المسلمة في موقع المواطنة الناقصة، دون تمكين حقيقي لحقوقها. ويُعد هذا المسار الأكثر خطورة، لأنه يعيد إنتاج الأسباب العميقة للصراع، ويفرض إمكانية الانفجار في أي لحظة، ويخلق بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية غير قابلة للاستقرار، ما يجعل الحياة اليومية لشعبٍ متعدد مثل الشعب السوري معرضة للاضطراب والتهميش المستمر.
اما القضية الكردية يمكن وصفها معياراً للاستقرار حيث تُعدّ القضية الكردية في سوريا نموذجاً دالاً على فشل الدولة الوطنية في استيعاب التنوع. إذ يطالب الشعب الكردي بحقوق قومية وسياسية وثقافية طال حرمانه منها، ما يجعل حل هذه القضية وفق إرادة أصحابها شرطاً بنيوياً لأي استقرار في سوريا والمنطقة. وقد أثبتت التجارب الحديثة أن تجاهل المطالب الكردية أو التعامل معها بمنطق أمني يمهد لدوامات من الصراع.
إن اعتماد حل سياسي عادل، يراعي حق الكرد في تقرير شكل مشاركتهم—سواء في إطار دولة موحدة لا مركزية أو ضمن صيغة تقرير المصير—سيكون خطوة أساسية في تأسيس نظام سياسي جديد، كما أن قبول المكوّنات العربية والفئات الاجتماعية الأخرى لهذا الحق يمثل اختباراً لمستوى التحول الفكري تجاه مفهوم المواطنة الحديثة.
لذا ينبغي على السوريين العمل والسعي نحو عقد اجتماعي جديد وإن أي نموذج سياسي مستقبلي لسوريا يجب أن يقوم على مجموعة من المبادئ المؤسسة، أبرزها:
- الاعتراف الدستوري بالتعدد القومي والديني والمذهبي وضمان الحقوق الثقافية والسياسية لكل المكوّنات دون تمييز.
- توزيع السلطات ضمن نظام لا مركزي يمنح الأقاليم والمجتمعات المحلية الحق في إدارة شؤونها.
- حيادية الجيش والمؤسسات الأمنية بوصفها ضامناً للأمن الوطني لا طرفاً سياسياً، مع إخضاعها لرقابة مدنية دستورية تمنع استخدامها لخدمة أي فئة أو أيديولوجيا.
- فصل الدين عن الدولة بما يضمن حياد السلطة تجاه الانتماءات الدينية والمذهبية، ويحول دون استخدام الدين في شرعنة الإقصاء أو التمييز، مع الحفاظ على حرية ممارسة الشعائر الدينية بوصفها حقاً فردياً وجماعياً.
- بناء مؤسسات ديمقراطية تعكس الإرادة الشعبية الحقيقية، لا الإرادة الأمنية أو الطائفية أو الحزبية.
- حل القضايا القومية، وفي مقدمتها القضية الكردية، وفق معايير العدالة والاختيار الحر، بوصف ذلك شرطاً للاستقرار الإقليمي.
- إعادة تعريف مفهوم الانتماء من منطق الهيمنة إلى منطق الشراكة، بحيث يكون جميع المواطنين شركاء في إنتاج الدولة، لا رعايا ضمن نظام مركزي قسري.
إن نجاح هذا المشروع قد يُسهم في تحويل منطقة الشرق الأوسط من ساحة صراع بين القوميات والطوائف إلى فضاء تعاون بين شعوب متجاورة متساوية، بما يخدم الاستقرار والتنمية والحضارة الإنسانية.
خلاصة القول: لم تعد مشكلات الدولة السورية قابلة للحل عبر إعادة إنتاج النموذج القديم القائم على المركزية والهوية الأحادية. بل إن إدارة التنوع، لا نفيه، هي التي ستحدد إمكانية استمرار سوريا كوحدة سياسية، أو تحولها إلى كيانات جديدة. وبين التفكك وإعادة البناء، يبقى الشرط الحاسم هو صياغة عقد اجتماعي جديد يعترف بالآخر ويُشركه في صناعة القرار، لا بوصفه ملحقاً بالدولة، بل شريكاً في إنتاجها.