سليمان سليمان
حين تتحول السياسة إلى بازار مفتوح، تباع فيه المبادئ وتشترى فيه المواقف، تضيع الشعوب بين الإرهاب والمصالح.
في الشرق الأوسط اليوم، تتبدل الأدوار بين القاتل والمنقذ، وبين الإرهابي والحليف، بينما يبقى الإنسان هو الضحية الدائمة.
يبدو أن مشهد الشرق الأوسط اليوم يدخل مرحلة جديدة من العبث، حيث تتحول المحرمات السياسية إلى سلع تعرض في أسواق المساومات الدولية بلا خجل ولا ضمير.
لم يعد هناك ثابت أخلاقي أو سياسي؛ فكل شيء قابل للبيع، من المبادئ إلى دماء الشعوب.
في هذا السياق، تمثل اللقاءات بين طرفٍ كان يُصنف حتى الأمس القريب إرهابيًا (الجولاني وفصائله)، وطرفٍ يدّعي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان (الولايات المتحدة)، تجسيدًا صارخًا لانهيار المعايير التي كانت تُعد خطوطًا حمراء في السياسة الدولية.
استقبال دونالد ترامب لأحمد الشرع ليس سوى صفعة جديدة على وجه العدالة، وإهانة مزدوجة:
للشعوب التي اكتوت بنار إرهاب جبهة النصرة، تلك التي غيّرت جلدها مرارًا وتكرارًا من جبهة النصرة إلى “جبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام في محاولة بائسة لتبييض ماضيها الدموي وإخفاء ارتباطها القاعدي.
شعوب دفعت ثمنًا باهظًا من دمائها ومدنها وذاكرتها تحت رايات تلك التنظيمات التي امتهنت الذبح والتهجير باسم الدين.
ولعل من المفارقات التي يتجاهلها الكثيرون، أن أول هجوم شنته جبهة النصرة في سوريا لم يكن على نظامٍ أو على قوةٍ أجنبية، بل كان على الشعب الكوردي في روج آفاي كوردستان، في منطقة سري كانيه تحديدًا، حيث واجه المقاتلون والمقاتلات الكورد تلك الهجمة ببسالةٍ نادرة، ولقنوا الإرهابيين درسًا قاسيًا انتهى بهزيمتهم المدوية.
ذلك النصر لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل كان بداية الوعي الكوردي المقاوم، ورسالة واضحة بأن هذه الأرض لا تُباع ولا تُسلم، وأن من دافع عنها فعل ذلك دفاعًا عن الإنسانية جمعاء في وجه الظلام والتوحّش.
ومن المفارقة أن العالم الذي يدّعي الحرب على الإرهاب، تجاهل تلك الحقيقة، وتعامى عن أولى جرائم النصرة ضد الكورد، ليصل اليوم إلى حدّ تبييض صورة من كانوا بالأمس على قوائم الإرهاب.
وإهانة أيضًا للشعب الأمريكي، الذي سقط أبناؤه وجنود التحالف الدولي في معارك شرسة ضد التنظيمات الإرهابية التي خرجت من عباءة الجولاني وحلفائه. فمشهد مصافحة ترامب لممثل تلك البنية الإرهابية، مهما تغيّر اسمها أو مظهرها، هو طعنة في ضمير كل جندي قاتل الإرهاب، وخيانة صريحة لدماء آلاف الضحايا من شعوب المنطقة الذين واجهوا هذا الفكر الظلامي في كل جبهة.
لقد تحوّل الرجل من إرهابيٍ مطلوب إلى زعيم يُستقبل في أروقة السياسة، وكأن دماء الضحايا مجرد أرقام منسية في دفتر المصالح الأمريكية.
لكن الأخطر من ذلك هو الاستخفاف بمصائر الشعوب.
فترامب لا يعنيه من قُتل أو سيُقتل؛ ما يهمه هو الربح السياسي والتجاري.
وفي مناخ كهذا، ليس مستغربًا أن يتخلى غدًا عن الشعب الكوردي الذي قاتل نيابةً عن العالم وهزم أعتى تنظيم إرهابي، تمامًا كما تخلّى من سبقه عن حلفائه حين تغيّرت اتجاهات الريح.
إن ما نشهده اليوم ليس مجرد صفقة عابرة، بل تحول في طبيعة القوة نفسها؛ إذ لم تعد الدول تقود الحرب ضد الإرهاب، بل أصبحت تعيد تشكيل الإرهاب وفق حاجتها، تصنعه وتوظفه وتعيد تلميعه حين يتطلب الأمر.
إن وصول الجولاني إلى عتبة البيت الأبيض، إن حدث ذلك، لن يكون مفاجئا، بل نتيجة طبيعية لهذا الانحدار الأخلاقي.
فالرجل الخارج من مدارس العنف سيقدم كل التنازلات المطلوبة لأمريكا أو لإسرائيل مقابل أن يبقى رئيسًا ولو على أنقاض شعبه.
وهو بذلك يعيد المشهد الذي رسخه حافظ الأسد من قبل، حين سلّم الجولان ليبقى على صدور السوريين أكثر من نصف قرن يمارس فيهم القمع والبطش.
اليوم، يعيد التاريخ نفسه بأسماء مختلفة وأعلام جديدة، لكن الجوهر واحد:
الإرهاب والفاشية بأثواب جديدة، والمأساة ذاتها تتكرر، والضحية تبقى الشعوب وعلى رأسها الشعب الكوردي الذي يدفع به في كل مرة إلى حافة الخسارة.
ويبقى السؤال المعلّق:
إلى أين تمضي هذه الصفقات؟ وكم من السنوات المقبلة ستخنق فيها هذه الوجوه الملوّثة أنفاس الشعوب؟
ربما لا أحد يريد أن يعرف، أو ربما لم يعد أحد يستطيع أن يعرف، فمصير الشعوب بات جزءًا من لعبةٍ كبرى لا مكان فيها للعدالة ولا للكرامة.