خوشناف سليمان
تأتي المادتان الصحفيتان اللتان أعدّهما الإعلامي عبدالسلام خوجة في موقع/ نورث برس / كجزءٍ من خطابٍ إعلامي يتجاوز حدود الخبر ليؤسس لسردية سياسية جديدة حول موقع دمشق في المنظومة الدولية.
ففي ظاهر الأمر. يتناول النصان احتمالية انضمام الحكومة السورية الانتقالية برئاسة أحمد الشرع إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية داعش.
أما في عمقهما فهما يؤسّسان لرؤية أوسع.. انتقال سوريا من زمن العزلة إلى زمن الوصاية الجديدة. عبر باب مكافحة الإرهاب. و هو الباب ذاته الذي أعاد منذ عقدين تعديلات الشرق الأوسط في صورته الأميركية.
1. لغة التحالف و ولادة المفهوم الجديد لـ الدولة.
ما يعرضه خوجة ليس مجرد احتمال سياسي بل هو عملية إعادة صياغة لمفهوم الدولة السورية وفق معايير التحالف الدولي.
يُراد للانضمام أن يُقدَّم بوصفه استحقاقًا طبيعيًا. لا خيارًا سياسيًا و أن يُفهم الأمن بوصفه أولوية مطلقة تسبق فكرة السيادة ذاتها.
في هذا المعنى تُعاد تعريفات الانتماء و الشرعية و المواطنة داخل إطارٍ جديد تُحدّده واشنطن و شركاؤها لا الدستور أو الإرادة الوطنية.
2. التواطؤ اللغوي: كيف يُعاد بناء المعنى؟
يُدار الخطاب الصحفي بلغةٍ محسوبة تُخفي التوجيه تحت طبقة من الحياد.
العبارات من قبيل: /الانضمام المتوقع..الالتزامات المعقدة .. التحولات الجوهرية / تبدو توصيفية لكنها تؤدي وظيفة الإيحاء بالقبول المسبق.
هكذا تتحول اللغة إلى أداة هندسة للرأي العام:
تُقدّم الوصاية بوصفها /تعاونًا /. و الخضوع بوصفه/ شراكة/. والتنازل بوصفه /شفافية وإصلاحًا/.
3. تعددية ظاهرية لإجماع خفي
يتوزّع المتحدثون في تقريري خوجة بعناية تمثيلية..
محلل قومي سوري. باحث كردي. محلل عراقي. و خبير مقيم في واشنطن.
أصواتٌ مختلفة تُستخدم لتأكيد سردية واحدة.. أنّ الانضمام إلى التحالف ضرورة لا مفر منها.
بهذا الشكل يُصنع الإجماع دون أن يُعلن. و يُغسل الموقف السياسي ببلاغةٍ مهنية ظاهرها التعدد و باطنها الانقياد.
4. من مكافحة الإرهاب إلى إدارة الخطر
ما يطرحه التحالف ليس إنهاء الإرهاب بل احتكاره وإدارته.
فحين يصبح الانضمام إلى التحالف شرطًا لممارسة السيادة تتحول الحرب على الإرهاب إلى آلية مراقبة دائمة.
إذ لم يعد /داعش/ هو التهديد. بل ذريعة التهديد. تُستخدم لتبرير استمرار الوجود الاستخباراتي والعسكري والسياسي في المنطقة.
بهذا الشكل. تتحوّل مكافحة الإرهاب إلى استراتيجية لتأبيد التبعية.
5. من الاحتلال إلى الإخضاع الناعم
يُهيّئ الخطاب الإعلامي الأرض لمرحلة الوصاية الرمزية. حيث تُدار البلاد من دون جنودٍ أجانب ولكن تحت سقفٍ سياسي دولي محدَّد.
الانضمام إلى التحالف يعني فعليًا الدخول في منظومة أمنية. قانونية خارجية تُحدّد معايير الحكم. و الإصلاح. و حتى /التسامح الديني/.
وفي لحظةٍ لاحقة يتحول الحديث عن / رفع العقوبات.. و الانفتاح الاقتصادي / إلى أدواتِ مكافأةٍ على الطاعة. لا اعترافٍ بسيادة الدولة.
6. روجآفا والتجربة الكردية
حين يشير خوجة إلى /أهمية تعاون دمشق مع قسد/. فإنه لا يتحدث عن شراكة بين قوتين سياسيتين. بل عن علاقة إشراف و تحكّم.
فالتقرير يجعل من هذا التعاون شرطًا لنجاح الاتفاق الدولي. لا لنجاح مشروع وطني.
بهذا. يُختزل الكيان السياسي و الإداري في شمال و شرق سوريا إلى /قوة رديفة/ ضمن منظومة التحالف. و يُجرَّد من بعده التحرري و الاجتماعي.
إن تجربة روجآفا. التي قامت على استقلالية القرار و مفهوم الإدارة الذاتية و المجتمع التعددي. تُقدَّم هنا كمادة قابلة للدمج والترويض. لا كخبرة سياسية أصيلة.
ما يُراد في الجوهر هو نزع السياسة عن التجربة الكردية و تحويلها إلى ذراع أمنية مطواعة. تُشرعن وجود التحالف و تُكمل فراغ الدولة المركزية المنهارة.
و هذا هو أخطر أشكال الاحتواء.. حين يُستبدل الوجود العسكري بالاحتواء المعنوي داخل سردية التحالف الخير.
7. زيارة احمد شرع الى واشنطن. الطقس السياسي للطاعة
في المخيال الإعلامي. تُصوَّر الزيارة بوصفها عودة سوريا إلى المجتمع الدولي بينما هي في جوهرها إعلان دخول سوريا إلى المدار الأميركي من جديد.
إنها ليست زيارة رئيس دولة، بل اعترافٌ رسمي بموقع الدولة الجديدة في نظامٍ دولي هرمٍ يحكمه التفويض الأمني لا الإرادة الوطنية.
وبين ملفات مكافحة الإرهاب ورفع العقوبات والتطبيع مع إسرائيل تتضح وظيفة هذه الزيارة:
تحديد شروط الانتماء إلى النظام العالمي الجديد لا تحديد ملامح السيادة السورية.
8. التحالف كأداة إعادة بناء الهيمنة
إنّ إعادة تأهيل سوريا تحت مظلة التحالف ليست عملية سياسية بقدر ما هي عملية إعادة تدوير للمشهد الشرق أوسطي بما يضمن استمرار السيطرة.
فالتحالف. الذي تأسس ضد داعش. تحوّل إلى جهاز إدارةٍ عابر للدول. يراقب و يعاقب و يمنح الشرعية.
بهذا المعنى. فإن انضمام دمشق إليه لا يعني العودة إلى المجتمع الدولي. بل الذوبان في إطاره بوصفها تابعًا مشروطًا.
9. من وعي المقاومة إلى وعي السيادة
إنّ أخطر ما في هذه المرحلة هو تحويل فكرة المقاومة إلى ذاكرة و فكرة السيادة إلى بروتوكول إداري.
فحين يُقاس الإصلاح بمدى الانضباط للتحالف تُفقد السياسة معناها و يتحوّل القرار الوطني إلى ملف إداري في واشنطن أو بروكسل.
الرهان الحقيقي لا يكمن في الانضمام إلى منظومة دولية. بل في استعادة القدرة على تعريف الذات دون وساطة الخارج.
من هنا. فإنّ مشروع روجآفا و مشروع القوى الوطنية المستقلة في الداخل السوري لا يزالان يشكّلان المسار الوحيد لبناء مفهومٍ جديد للسيادة. يقوم على الشرعية المجتمعية لا التفويض الدولي.
السيادة لا تُمنح. بل تُستعاد.
و كل ما يجري باسم التحالف ليس سوى محاولة جديدة لتأجيل هذا الاستحقاق التاريخي.
لم تنتهِ الحرب في سوريا. لقد تغيّرت أدواتها.
تُستبدل البنادق بالتصريحات. و الاحتلال بالعقود. والميدان بالتحالف.
و ما لم يُدرك السوريون أن /التحالف الدولي/ ليس تحالفًا ضد الإرهاب بل تحالفًا على شكل العالم القادم. فإنهم سيستيقظون يوماً ليجدوا أن الجغرافيا التي حُرّرت من داعش أُعيد احتلالها بالقرارات الدولية ذاتها.
ما يُكتب اليوم باسم /التعاون/ هو في الحقيقة اسلوب جديدة للطاعة. تُدار فيها دمشق من الخارج. و يُعاد فيها تعريف سوريا بما يلائم مصالح القوى لا مصالح الشعب.