الكورد هم من يملك جذور الأرض في سوريا

عبد الرحمن حبش

إذا عدنا إلى الجذور التاريخية بعيدًا عن العاطفة والشعارات يتبيّن بوضوح أن العرب موطنهم الأصلي هو شبه الجزيرة العربية الممتدة من السعودية واليمن إلى قطر والبحرين والكويت والإمارات وسلطنة عمان وصولًا إلى الأردن. أما سوريا ولبنان والعراق فلم تكن يومًا أراضي عربية خالصة بل تعرّبت لاحقًا بفعل الفتوحات الإسلامية والحكم السياسي المتعاقب.

قبل تلك الفتوحات كانت المنطقة خاضعة لسلطات الرومان والبيزنطيين والميديين الميتانين والهوريين والآراميين والسريانيين وكان سكانها يتحدثون لغاتهم الأصلية تمامًا كما احتفظت شعوب شمال إفريقيا بلغاتها الأمازيغية واللاتينية قبل أن تطالها سياسات التعريب الطويلة.

اليوم فإنّ معظم من يتحدثون العربية في المشرق والمغرب ليسوا من أصول عربية خالصة بل من شعوبٍ مستعربة فُرضت عليها اللغة والثقافة العربية عبر قرون من التحول السياسي والديني. فالعرب الحقيقيون ما زالوا يتميّزون بلهجاتهم وملامحهم الخاصة في شبه الجزيرة العربية بينما تتنوّع أصول سكان سوريا ولبنان والعراق بين الكورد والآراميين والكلدانيين والآشوريين والسريان وغيرهم من المكوّنات الأصيلة.

بعد انهيار الدولة العثمانية وتوقيع اتفاقية سايكس–بيكو نشأت كيانات سياسية جديدة خضعت للانتدابين الفرنسي والبريطاني. وشهدت سوريا والعراق موجات تهجير واستيطان لقبائل عربية نحو الشمال في إطار سياسة هدفت إلى تغيير البنية الديموغرافية وطمس الهويات الأصلية وعلى رأسها الهوية الكوردية في مناطق مثل عفرين وسري كانيه وكري سبي وريف حلب وأعزاز وإدلب وجبل الأكراد وجرابلس والحسكة والرقة حيث جرى استقطاع أراضٍ كوردية وإسكان عشائر عربية وتركمانية فيها. وفي العراق أيضا هدفت  سياسة التغيير الديمغرافي وتوطين العرب والتركمان في مناطق الكوردية مثل موصل وكركوك وخانقين وديالي وغيرهم من مناطق أخرى. 

الواقع الديموغرافي السوري يؤكد أن الكورد مكوّن أصيل وأساسي في البلاد. ففي دمشق وحدها يعيش أكثر من مليون كوردي وفي حماة نحو سبعمئة ألف كما تنتشر العائلات الكوردية في إدلب وجبل الأكراد شمال اللاذقية وفي حلب والرقة والحسكة وشمال دير الزور. وأيّ إحصاء موضوعي سيُظهر أن الكورد يشكّلون إحدى أكبر القوميات السورية إلى جانب العرب والدروز والتركمان والسريان والآشوريين والأرمن. ومن ثم فإن حصر الهوية السورية في قومية واحدة يُعدّ إنكارًا للواقع التاريخي والسكاني المتعدد.

الكورد ليسوا طارئين على هذه الأرض بل هم من جذورها الأولى. فممالك الهوريين والميتانيين والنايريين التي ازدهرت من كوردستان إيران وكوردستان العراق وكوردستان تركيا و صولا إلى نهردجلة و الفرات وجبال طوروس والأمانوس وصولًا إلى البحر المتوسط تمثّل الأصل التاريخي للشعب الكوردي. وكانت عاصمتهم القديمة واشوكاني (رأس العين) مركزًا حضاريًا مرموقًا قبل آلاف السنين.

وحين رُسمت حدود الدول الحديثة وفق اتفاقية سايكس–بيكو جرى تقسيم كردستان التاريخية بين تركيا وسوريا والعراق وإيران ليجد الكورد أنفسهم مواطنين في دولٍ مختلفة دون أن يغادروا أرضهم. وتؤكد الوثائق العثمانية والفرنسية أن المناطق الممتدة من ديريك إلى القامشلي وعامودا والمالكية وكوباني وجرابلس والباب وحلب وأعزاز وعفرين كانت مأهولة بالعشائر الكوردية العريقة مثل الميران والهفيركان والشيخان والبرازية والأمكي والشكاكي وغيرهم. كما أن الكورد الإيزيديين يُعتبرون من أقدم شعوب المنطقة وقد كانت للإدارة الفرنسية في فترة الانتداب علاقات مباشرة مع زعمائهم المحليين.

أما الادعاءات التي تزعم أن الكورد وفدوا حديثًا إلى قامشلو أو كوباني أو عفرين فهي باطلة تاريخيًا. فكلمة القامشلي أصلها كوردي وتعني مكان القصب واسم كوباني اشتُق من النطق الكوردي لكلمة (Company) نسبةً لشركة السكك الحديدية الألمانية وكانت المنطقة منذ القرن الثامن عشر محاطة بقرى كوردية خالصة. أما عفرين فليست مدينة سريانية كما يروّج البعض بل منطقة كوردية أصيلة تعود تسميتها إلى نهر عفرين المذكور في السجلات الحثّية القديمة. وتشهد آثارها وتلالها مثل قلعة نبي هوري وقلعة سمعان على الامتداد الحضاري للميتانيين والهوريين والميديين والكورد الإيزيديين في المنطقة.

ورغم كل ذلك لم يطالب الكورد يومًا بالانفصال عن سوريا بل نادوا دومًا بالتعايش المشترك والعدالة والمساواة والاعتراف بحقوقهم القومية والثقافية ضمن دولة سورية ديمقراطية تعددية.

أما من يصف المشروع الكوردي بأنه صناعة خارجية فذلك ترديد لخطاب سياسي فقد مصداقيته لأن نضال الكورد نابع من حق طبيعي في الحرية والكرامة لا من أجندات أو مصالح أجنبية. إنّ إنكار الوجود الكوردي في سوريا هو إنكارٌ للتاريخ نفسه، فالشواهد الأثرية واللغوية والأنثروبولوجية تؤكد أن شمال سوريا هو الامتداد الطبيعي لكردستان التاريخية وأن الكورد أبناء هذه الجغرافيا منذ فجر الحضارة لا ضيوفًا ولا طارئين عليها.

تبقى الحقيقة ثابتة إن الكورد هم من بنوا أولى الحضارات على هذه الأرض فيما وفدت إليها الأقوام الأخرى عربًا وتركًا وغيرهم عبر الغزوات والتحالفات اللاحقة.

إن احترام التاريخ يبدأ بالاعتراف بالحقائق لا بتزويرها وبالإيمان بأن سوريا وطنٌ متعدد القوميات لا ينهض إلا بالعدل والمساواة بين جميع مكوّناته الأصيلة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين المجتمع الأمريكي من اكثر المجتمعات بالعالم تنوعا من النواحي العرقية ، والثقافية ، والجنسية ، فبخلاف اهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر الذين عاشوا الحياة البدائية لقرون غابرة ، والذين انقرضوا بمرور الزمن ، هناك مئات الملايين من مهاجرين من عشرات الانتماءات القومية ، والثقافية لشعوب أوروبا ، وافريقيا ، وآسيا ، وامريكا اللاتينية ، وأستراليا تعاقدوا منذ…

زاكروس عثمان في النقاشات السياسية المتصلة بسوريا، يبرز خطاب إعلامي موجَّه يعتمد على مغالطات لغوية – سياسية تُستخدم لترسيخ رواية السلفية–التكفيرية حول “الدولة الواحدة” و“هيمنة الأغلبية”. ومن أخطر هذه المغالطات ما جاء به الإعلامي السوري فيصل القاسم في مقاله المنشور في صحيفة القدس العربي يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 بعنوان: «متى حكمت الأقليات في الديمقراطيات؟». يبدأ القاسم مقاله بهجوم حاد…

د. محمود عباس من أخطر الظواهر التي تعيد إنتاج عصور الجهل والظلام في واقعنا السوري الراهن، تلك الموجة المسعورة التي تستهدف المفكرين والكتّاب الأحرار، ومن بينهم الكاتب الكوردي (هوشنك أوسي) وسائر الأقلام الديمقراطية المستقلة، التي تكتب بضمير وطني حرّ، والتي ندينها بأشد العبارات. فالهجمة لا تصدر عن نقد فكري مشروع، بل تُشنّ بأدوات التكفير والتحريض من قبل فلول التطرف وبقايا…

جليل إبراهيم المندلاوي في الوقت الذي صار فيه المقعد النيابي أكبر من صاحبه، وأضيق من أن يتّسع لفكرة الديمقراطية، خرج علينا مشهدٌ يلخّص أزمة السلطة حين تنقلب على أصل معناها، ففي قضاء الدبس الهادئ، استيقظ الأهالي على عرض أكشن سياسيّ حيّ.. حيث اقتحم نائب منتخب بيت مواطن لأنه تجرأ وكتب تعليقا على فيسبوك، عجبا.. يبدو أن الديمقراطية عند البعض تتحسس…