عندما تغسل الأيديولوجيا الواقع

نجاح هيفو.

في المجتمعات التي تغيب عنها المؤسساتية وتضعف فيها مقومات العيش الكريم، تنشأ فراغات هائلة في الوعي الجمعي تُملأ غالباً بخطابات أيديولوجية صاخبة. هذه الخطابات لا تُقدّم حلولاً بقدر ما تُخدّر، ولا تبني بقدر ما تُعيد تشكيل الواقع ليبدو مقبولاً في صورته المتردية. وهكذا، تتحول الأيديولوجيا إلى منظفٍ رمزيٍّ يغسل أدران الواقع، لتبدو القبحات وكأنها ملامح طبيعية للحياة.

عندما يغيب القانون وتنهار منظومات المحاسبة، تصبح السلطة – أياً كان شكلها – قادرة على إعادة تعريف الحقيقة، وتغليفها بشعارات تستهلك وعي الناس بدل أن تنيره. يتماهى المواطن مع الخطاب الجمعي الذي يُقال له صباحاً ومساءً، وتتحول الشعارات إلى بدائل عن الخبز، والهتافات إلى بدائل عن العدالة. هنا بالضبط تُستبدل المؤسسات بالعقيدة السياسية، ويُستبدل الوعي بالنصّ الأيديولوجي الجاهز.

في ظل هذا التردي المعيشي، لا يجد الإنسان ما يدافع عنه سوى ما يُلقَّن له. فالجائع لا يملك ترف التفكير، والمقهور يبحث عن أي سلّم يبرر خضوعه، حتى لو كان وهمياً. عندها تصبح الأيديولوجيا أداة “استغفال ممنهجة”، تبرر العجز وتغطي الفشل، وتعيد إنتاج الخضوع في صورة قناعة وطنية أو واجب مقدس.

وهنا تكمن السهولة الخطيرة: سهولة زجّ الشعوب في خانة الخنوع عبر خطاب منمق يربط الولاء بالنجاة، ويخلط بين السلطة والوطن، وبين الحاكم والمقدس. فحين يُصبح الرفض جريمة، يُختزل التفكير إلى طاعة، وتُدفن روح النقد تحت ركام الشعارات.

إن المشكلة الجوهرية ليست في وجود الأيديولوجيا، بل في تحولها إلى بديل عن المؤسسات، وإلى غطاء للفساد والهيمنة. فالأيديولوجيا بطبيعتها يجب أن تكون إطاراً للتفكير، لا سجناً له؛ وسلّماً للنهضة، لا وسيلة لتزييف الواقع وتجميل العجز.

حين تُستعاد المؤسسات وتُبنى على أسس قانونية ومواطنة حقيقية، لن تعود الأيديولوجيا بحاجة لغسل الواقع، لأنها ستجد نفسها وجهاً لوجه أمامه – نقداً، وتحليلاً، وإصلاحاً. أما حين تبقى الدولة ممسوكة بيد فئة تستثمر في الجهل والخوف، فستظل الأيديولوجيا منشفةً تغطي بها الأنظمة عوراتها السياسية والاقتصادية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين المجتمع الأمريكي من اكثر المجتمعات بالعالم تنوعا من النواحي العرقية ، والثقافية ، والجنسية ، فبخلاف اهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر الذين عاشوا الحياة البدائية لقرون غابرة ، والذين انقرضوا بمرور الزمن ، هناك مئات الملايين من مهاجرين من عشرات الانتماءات القومية ، والثقافية لشعوب أوروبا ، وافريقيا ، وآسيا ، وامريكا اللاتينية ، وأستراليا تعاقدوا منذ…

زاكروس عثمان في النقاشات السياسية المتصلة بسوريا، يبرز خطاب إعلامي موجَّه يعتمد على مغالطات لغوية – سياسية تُستخدم لترسيخ رواية السلفية–التكفيرية حول “الدولة الواحدة” و“هيمنة الأغلبية”. ومن أخطر هذه المغالطات ما جاء به الإعلامي السوري فيصل القاسم في مقاله المنشور في صحيفة القدس العربي يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 بعنوان: «متى حكمت الأقليات في الديمقراطيات؟». يبدأ القاسم مقاله بهجوم حاد…

د. محمود عباس من أخطر الظواهر التي تعيد إنتاج عصور الجهل والظلام في واقعنا السوري الراهن، تلك الموجة المسعورة التي تستهدف المفكرين والكتّاب الأحرار، ومن بينهم الكاتب الكوردي (هوشنك أوسي) وسائر الأقلام الديمقراطية المستقلة، التي تكتب بضمير وطني حرّ، والتي ندينها بأشد العبارات. فالهجمة لا تصدر عن نقد فكري مشروع، بل تُشنّ بأدوات التكفير والتحريض من قبل فلول التطرف وبقايا…

جليل إبراهيم المندلاوي في الوقت الذي صار فيه المقعد النيابي أكبر من صاحبه، وأضيق من أن يتّسع لفكرة الديمقراطية، خرج علينا مشهدٌ يلخّص أزمة السلطة حين تنقلب على أصل معناها، ففي قضاء الدبس الهادئ، استيقظ الأهالي على عرض أكشن سياسيّ حيّ.. حيث اقتحم نائب منتخب بيت مواطن لأنه تجرأ وكتب تعليقا على فيسبوك، عجبا.. يبدو أن الديمقراطية عند البعض تتحسس…