الإدارة الذاتية الديمقراطية  في شمال شرق  سوريا  بديل مؤقت أم مشروع دائم:

عاصم أمين:

تمثل الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال شرقي سوريا، كصيغة سياسية وإدارية، إحدى أكثر التجارب المثيرة للجدل في المشهد السوري المعاصر والمعاش، وذلك من خلال النظر إلى ما تطرحه من بديل إداري وتنظيمي يتجاوز مركزية السلطة في دمشق من جهة، ويقدّم حلاً أو نموذجاً يستند إلى مشاركة المجتمعات والشعوب السورية المحلية في إدارة شؤونها من جهة أخرى. غير أنّ النقاش حول هذه التجربة لا يمكن اختزاله في بعدها الراهن فحسب، بل يستوجب العودة إلى جذورها التاريخية والفكرية، فهي لم تنشأ بشكل اعتباطي أو من الفراغ، ولم تكن وليدة ظرف سياسي طارئ، بل امتداد لفكرة أقدم ترتبط بتنظيم المجتمعات لنفسها وإدارة مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية بعيداً عن سيطرة القوى السلطوية التقليدية.

قبل تشكّل الدولة القومية بمفهومها الحديث، اعتادت المجتمعات البشرية على إدارة شؤونها من خلال مجالس محلية أو أشكال مختلفة من التنظيمات الإدارية العرفية التي أمنت نوعاً من الاستقرار والعدالة. ومع تطور التاريخ السياسي وفنون الإدارة ومناهجها، وظهور الدول المركزية، تراجع هذا الدور، لكنه لم يختفِ نهائياً. من هنا فإن ما يُعرف اليوم بـ “الإدارة الذاتية” ليست ظاهرة مبتورة الجذور، وإنما هي استدعاء لفكرة كامنة في ذاكرة وصميم البنية الاجتماعية والسياسية ( الادارات الذاتية داخل الامارات الاسلامية في  الحقبة الاموية والعباسية  خير برهان) ، وهو ما يمنحها عمقاً يتجاوز الادعاء بأنها مجرد تجربة عابرة أو حالة استثنائية طارئة استمدت أسباب وجودها وارتباطها بالصراع السوري وحده .

في المقابل، ما تزال دمشق، ممثلةً بحكومتها الانتقالية المؤقتة، متمسكة بالنموذج المركزي الصارم الذي حكم سوريا لعقود طويلة. هذا النموذج ينطلق من رؤية تعتبر الدولة سلطة عليا مطلقة تحتكر القرار السياسي والاقتصادي والأمني، ولا تعترف إلا بقدر محدود من المشاركة المحلية، غالباً ما يكون شكلياً أو تحت إشراف الأجهزة المركزية. ولعل المفارقة أن هذه الصيغة التي تتشبث بها دمشق، ورغم قدرتها على فرض شكل من الانضباط الموحد، بقيت عاجزة عن الاستجابة الحقيقية لحاجات المجتمعات المحلية، إذ تعاملت معها باعتبارها مجرد أطراف خاضعة لا شركاء في صنع القرار.

إن المقارنة بين نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية من جهة، ونموذج الدولة المركزية الذي تتمسك به السلطة الانتقالية المؤقتة في دمشق من جهة أخرى، تكشف عن تباين جوهري في المرجعيات والآليات. فالإدارة الذاتية ترتكز على مفهوم المواطنة المحلية والمشاركة الشعبية، وتسعى إلى تحقيق شكل من العدالة الاجتماعية عبر إشراك المكونات المتعددة في القرار السياسي والإداري. بينما يقوم النموذج المركزي على احتكار القرار وتهميش التعددية، مع الحفاظ على سلطة فوقية تُقصي أي محاولة للخروج عن سيطرة العاصمة. وفي حين تتأسس الإدارة الذاتية على آليات التنظيم المجتمعي التي يمكن أن تتطور مع الزمن لتشكّل نواة لاستقرار طويل الأمد، يظل النموذج المركزي أسير البيروقراطية والسلطوية، عاجزاً عن التكيف مع التحولات الميدانية والسياسية التي فرضتها سنوات الحرب.

ومن الناحية السياسية، فإن الإدارة الذاتية تُطرح اليوم باعتبارها خياراً وسطاً بين انهيار الدولة المركزية واستحالة عودتها إلى ما كانت عليه قبل عام 2011. فهي تقدم نموذجاً لإدارة الموارد والقدرات المحلية بطريقة لا تلغي إمكانية التعايش مع الدولة، لكنها في الوقت ذاته ترفض العودة إلى التهميش أو الاستبداد. هذه المرونة تمنحها قدراً من الشرعية الداخلية يصعب على الدولة المركزية استعادته، في ظل ذاكرة مثقلة بالاستبعاد والإقصاء.

قد يُطرح سؤال جوهري هنا: هل يمكن اعتبار الإدارة الذاتية مشروعاً بديلاً لفكرة المركزية الكلاسيكية في سورية أم مجرد صيغة مؤقتة فرضتها ظروف الحرب؟ الإجابة لا تبدو بسيطة، لكن ما يمكن تأكيده أن هذا النموذج اكتسب مع الوقت قدراً من الاستقرار والفاعلية، بحيث أصبح من الصعب تجاوزه أو إنكاره. فالسلطة السياسية التي لا تتأسس على قاعدة اجتماعية صلبة سرعان ما تنهار، في حين أن الإدارة الذاتية تستند إلى شبكة معقدة من المجالس والمؤسسات المحلية، ما يجعلها أكثر قدرة على الصمود أمام التحديات.

أما الدولة المركزية، فقد أثبتت خلال العقود الماضية، وبشكل أوضح بعد عام 2011، أنها لم تعد قادرة على استيعاب التعددية المجتمعية أو ضمان الاستقرار طويل الأمد. فهي تعيد إنتاج أنماط السيطرة ذاتها التي كانت سبباً في الأزمات المتلاحقة، معتمدة على الولاء السياسي والأمني أكثر من اعتمادها على المشاركة الشعبية أو التنمية المتوازنة. ولهذا يظل مستقبلها مرهوناً بقدرتها على إعادة تعريف ذاتها، وهو أمر لم تظهر دمشق استعداداً حقيقياً للقيام به حتى الآن.

إن النقاش حول شرعية الإدارة الذاتية لا ينفصل عن النقاش الأوسع حول مستقبل الدولة الوطنية في سوريا. فالنظام السياسي المركزي الذي ورثته سوريا من حقبة ما بعد الرحيل الشكلي للاستعمار، وفي اقصى تجلياتها قيام الوحدة بين مصر وسوريا، لم يعد قادراً على استيعاب التعددية، ولم يعد ضامناً للاستقرار في ظل التحولات العاصفة. من هنا تبرز الإدارة الذاتية كأحد البدائل الممكنة التي قد تشكّل جسراً نحو صيغ سياسية أكثر عدالة وتوازناً. وفي حين قد ينظر البعض إليها كتهديد لوحدة الدولة، فإن قراءة أعمق تكشف أنها قد تمثل، على العكس، محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، عبر إعادة بناء العلاقة بين المجتمع والسلطة على أسس جديدة.

في النهاية، يتضح أن الإدارة الذاتية ليست مجرد تجربة محلية معزولة، بل تجسيد لجدلية الصراع بين المشاريع السياسية المختلفة التي تتنازع الأرض السورية. فهي تمثل مشروعاً ينبع من داخل المجتمعات المحلية ويعتمد على قدراتها، بينما تمثل الدولة المركزية مشروعاً تقليدياً يتشبث بماضٍ لم يعد صالحاً لإدارة الحاضر أو المستقبل. وبين هذين النموذجين يكمن التحدي الحقيقي لمستقبل سوريا: هل يكون المستقبل امتداداً للسلطوية المركزية، أم يُفتح المجال لتجارب أكثر ديمقراطية وتشاركية؟ إن الجواب عن هذا السؤال لا يزال معلقاً، لكنه يوضح في جوهره أهمية الإدارة الذاتية كخيار واقعي وكمسار فكري وسياسي له جذور ضاربة في عمق التاريخ، وفرص واعدة في رسم ملامح المستقبل.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين المجتمع الأمريكي من اكثر المجتمعات بالعالم تنوعا من النواحي العرقية ، والثقافية ، والجنسية ، فبخلاف اهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر الذين عاشوا الحياة البدائية لقرون غابرة ، والذين انقرضوا بمرور الزمن ، هناك مئات الملايين من مهاجرين من عشرات الانتماءات القومية ، والثقافية لشعوب أوروبا ، وافريقيا ، وآسيا ، وامريكا اللاتينية ، وأستراليا تعاقدوا منذ…

زاكروس عثمان في النقاشات السياسية المتصلة بسوريا، يبرز خطاب إعلامي موجَّه يعتمد على مغالطات لغوية – سياسية تُستخدم لترسيخ رواية السلفية–التكفيرية حول “الدولة الواحدة” و“هيمنة الأغلبية”. ومن أخطر هذه المغالطات ما جاء به الإعلامي السوري فيصل القاسم في مقاله المنشور في صحيفة القدس العربي يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 بعنوان: «متى حكمت الأقليات في الديمقراطيات؟». يبدأ القاسم مقاله بهجوم حاد…

د. محمود عباس من أخطر الظواهر التي تعيد إنتاج عصور الجهل والظلام في واقعنا السوري الراهن، تلك الموجة المسعورة التي تستهدف المفكرين والكتّاب الأحرار، ومن بينهم الكاتب الكوردي (هوشنك أوسي) وسائر الأقلام الديمقراطية المستقلة، التي تكتب بضمير وطني حرّ، والتي ندينها بأشد العبارات. فالهجمة لا تصدر عن نقد فكري مشروع، بل تُشنّ بأدوات التكفير والتحريض من قبل فلول التطرف وبقايا…

جليل إبراهيم المندلاوي في الوقت الذي صار فيه المقعد النيابي أكبر من صاحبه، وأضيق من أن يتّسع لفكرة الديمقراطية، خرج علينا مشهدٌ يلخّص أزمة السلطة حين تنقلب على أصل معناها، ففي قضاء الدبس الهادئ، استيقظ الأهالي على عرض أكشن سياسيّ حيّ.. حيث اقتحم نائب منتخب بيت مواطن لأنه تجرأ وكتب تعليقا على فيسبوك، عجبا.. يبدو أن الديمقراطية عند البعض تتحسس…