خطاب الكراهية في سوريا: من تراكمية التاريخ إلى سردية التمدد إعلامياً

زينه عبدي

في خضم الصراعات الدائرة في سوريا منذ 2011 وإلى الآن، بات الفرد والمجتمع السوري في مواجهة حرب أصعب من ذي قبل، حرب الكراهية وشظايا الكلمات التي تولد عنفاً نفسياً أكثر من كونها تخلق إيذاءً جسدياً. وبينما سكتت أصوات الأسلحة والبنادق في سوريا بعد سقوط الأسد، بالمقابل تصاعدت أصوات أخرى أشد فتكاً وخراباً، أصوات محرضة تغزو النفس والروح وتلتهم ما تبقى من خواطرها لتشعل بذلك حربا يومية عبر الانشطارات والنزاعات الأهلية الداخلية بين السوريين والسوريات، عبر نشر خطاب الكراهية ضمن تغريدة أو تصريح عابر أو منشور فيسبوكي أو عبر برامج تحث على الانقسام بعمق ما بين المكونات، فتزداد هشاشة التعايش وتنتعش الكراهية وتنمو وتتجدد رويدا رويدا وبحلة جديدة لتنهش وتنخر بجسم الروابط والعلاقات الاجتماعية، فينتج عنه ضجيج أشبه بصوت القذائف والبنادق بمنأى عن قوانين تردعها بصورة حقيقية أو وعي جامع لتكبحها وتفكك جذورها، وتفتت مصادر تغذيتها التي تقتل الآمال بالعيش المشترك والمصالحة الوطنية.

كراهية متوارثة

بين ما يحدث اليوم وما زُرع بالماضي، لم يكن خطاب الكراهية داخل سوريا ظاهرة طارئة أو مستحدثة أو مبتكرة أو وليدة الحرب السورية على مدى أربعة عشر عاماً، بل وحسب قراءتي للمشهد الراهن وللتاريخ أنه ظاهرة ذات جذور عميقة تمتد لقرون من الزمن، كانت تستخدم في بعض الأحيان بذرائع أمنية أو سياسية أو اجتماعية على هيئة سلاح، كما كانوا يقولون ولا يزالون، للسيطرة على كل ما يدعو للنزاعات والصراعات وإدارتها بالطرق المثلى وإطفاء فتيل النار التي تفتك بالشعب والدولة على حد سواء. ما قبل الدولة الحديثة أي ما قبل الاستقلال شهدت عديد المناطق السورية توترات طائفية ومناطقية، إلا أنها كانت ذات تأثير محدود وتحل عبر بعض المرجعيات الدينية بشكل تقليدي. مع وصول حزب البعث إلى الحكم في ستينيات القرن الماضي وبسبب التركيبة المعقدة للنظام آنذاك المبنية على تكتلات وتحالفات ضمن الجهاز الأمني والجيش، ازدادت الحساسية على أسس طائفية سيما أن جزء كبير من تلك التحالفات كانت تابعة لطائفة معينة ألا وهي العلوية، وهنا بدأت معارضة الحكم آنذاك باستخدام خطاب طائفي وقابله النظام بخطاب أشد عنفاً وكراهية بغية تبرير الانتهاكات الأمنية عبر فكرة الأعداء والتخوين.

خلال الثمانينيات، حدث صدام غير مسبوق بين السلطات وجماعة “الإخوان المسلمين” وكان يعد خير مثال على الاستقطاب والاستثمار الأمثل لخطاب الكراهية، وهنا انقسم الشعب إلى كتلتين معارضة ومؤيدة، حيث نُعِت الإخوان من قبل النظام بـ “الإرهابيين” قابله تعبئة الشعب ضد السطلة أو بصورة واضحة ضد الطائفة التي كانت تحكم من قبل الإخوان والمعارضين. ومع انطلاق الثورة السورية شرع النظام وبصورة مباشرة بتأجيج خطاب الكراهية بجميع أشكاله، وتوسعت شبكات التحريض عندما بدأ النظام بوصف المعارضين له بالمندسين والخونة وأنهم يتظاهرون تحت مظلة الأجندات الخارجية لتحقيق مصالحها، وثم ظهرت شعارات تندد بما تفوهت به السلطات الحاكمة وبشكل مباشر من الجغرافيات التي تسيطر عليها المعارضة وكانت ذات طابع طائفي بالمثل كما النظام، ردة الفعل كما الفعل، الأمر الذي خلق موجة كراهية عابرة للحدود عبر منصات التواصل الاجتماعي والإعلام في النسيج السوري.

منذ 2011 وإلى اللحظة، نلاحظ أن الخطاب الرسمي بات تحريضيا وبشدة متحولةً إلى أدوات ومعدات تتبع المركزية كأن نقول رجال دين، جماعات مسلحة أو تنظيمات مسلحة أو فلول، جميعها ساهمت بالشكل الذي تبغيه السلطة في تأجيج وتعميق الفجوة القومية والطائفية مسببة عمليات نزوح ولجوء وتهجير قسري وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، ومجازر بصورة جماعية بُررت بالتطهير أو الدفاع عن الوطن أو انتقام من أعداء الوطن حسب الأجهزة الأمنية والسلطة السورية عبر وسائل الإعلام الذي كان له الدور الأبرز في نشر خطاب الكراهية بين الجميع. فالتاريخ يثبت بأن خطاب الكراهية هو نتيجة حتمية للتراكمات الاجتماعية الأمنية والسياسية والإعلامية داخل سوريا حتى باتت ثقافة تورث بين الأجيال، والثورة التكنولوجية الهائلة هي من سرَّعت هذه العملية بصورة سلبية وأكثر تأثيراً على نسبة كبيرة من الجمهور بغياب قوة فاعلة تقود الخطاب بما يحقق التوازن في المجتمع السوري وبالتالي التخفيف منه درءً لأية مخاطر تفتك بالدولة والشعب معاً، إلا أنه فتك وبزيادة.

 الإعلام يغذّي خطاب الكراهية

معارك الإعلام في تغذيتها لخطاب الاكراهية لا تتوقف عبر خطابه العنيف واللغة المتمردة على كل من يخالفه، دون الأخذ بعين الاعتبار أدنى معايير المهنة وأخلاقياتها لا سيما في الأحداث الجارية حاليا في السويداء، على سبيل المثال، وقبلها أحداث الساحل السوري في ظل فوضى المرحلة الانتقالية التي نحن بصددها. منذ استلام حزب البعث والمنظومة الأسدية سدة الحكم في سوريا كان الإعلام التابع له أو الرسمي يلعب دوراً مركزياً عنيفاً في رسم الصورة الذهنية للمختلف والمعارض له بالطريقة التي يريد، محتكراً السردية لصالحه بعيداً عن المصداقية في نقل الحقيقة، واعتمد في لغته وخطابه مصطلحات تحريضية ضد من يختلف عنه عبر وسائله المسموعة والمطبوعة والمرئية لا سيما من خلال نشرات الأخبار أو البرامج الحوارية.

مع اندلاع الحرب السورية عام 2011، وظَّف الإعلام الرسمي أحداث النزاعات والصراعات الداخلية في ترسيخ الكراهية بين المعارضين والمؤيدين عبر استثماره للمشاهد التي تدعم روايته، وبالمقابل ظهر الوجه الآخر للإعلام بما يسمى المعارض تبنى أحيانا، وبناءً على تصرفات وأفعال الإعلام الرسمي، خطاباً مضاداً يعكس النفور والكراهية وخلق أزمات طائفية لا تزال مستمرة خصوصاً فيما يتعلق بالطائفة العلوية التي ينتمي إليها آل الأسد.

ولا يزال، حسب مشاهدتنا، الإعلام الرسمي يمارس دوره المركزي في تشكيل الرأي العام لدى شريحة كبيرة من الشعب السوري والتأثير بها، ورغم الانحسار شبه التام لدوره وهيبته أمام ثورة الإعلام الرقمي وتوسعه السريع، إلا أن خطابه مبني كما السابق على إعادة إنتاج الكراهية والانشطار داخل المجتمع السوري دون الحد منه أو تهدئته على أقل تقدير. فقد تطور الخطاب التحريضي لدى الإعلام الرسمي نحو التحريض عبر اللغة والإيحاءات ضمنياً رغم تظاهره بالوقوف على نفس المسافة من كافة الأطراف لتبرز الدور الحيادي على مبدأ أنه تحول من آلة اصطفاف إلى فضاءات نقاش وحوار حقيقية.

في ظل الأحداث الجارية حاليا في السويداء، الإعلام الرسمي يحجب أو يخفف التغطية في تناول جزئي للحدث أو تهميش بعض الأحداث، مما يعطي مساحات لتأجيج العنف وخطاب الكراهية وتعميق الفتنة الطائفية، أو حين تغطيتها أحيانا تلتزم الصمت بذريعة مواجهة الاحتقان الأمني ودرء الفتنة الطائفية، التغطية الانتقائية تعيد إنتاج روايات الكراهية التي صارت تملأ الفراغ الإعلامي نتيجة غياب المعلومات الدقيقة الرسمية، في المقابل يلعب الإعلام البديل ورغم محدوديته دوره في فضح ممارسات الإعلام الحكومي حسب روايته التي تعزز المواطنة والحرية كما أفادت بعض منصاتها مثل السويداء24 والراصد. أما الإعلام المعارض فقد تبنى خطاب يشرح شرخ هوياتي فبعضها ربطت بين مطالب أهالي السويداء بالإسقاط وبين التقسيم والتطرف، مما يغذي الفجوة أكثر بين الأطراف الرسمية والهوياتية أو بين الولاء الطائفي والهوية الوطنية الجامعة.

كراهية حاضرة وتشريع غائب

إلى يومنا هذا، سوريا خالية من تطبيق قوانين تجرِّم خطاب الكراهية المغذي للتمييز الهوياتي أو التحريض الطائفي بصورة حقيقية وفعلية، رغم وجود بعض المواد التي تنص على تجريم من يثير النزعات الطائفية أو التحريض ضمن قانون العقوبات السوري، وعلى الأغلب تطبق هذه القوانين كأداة قمع وعقوبة لكل من يعارض أو ينشط ضد الدولة أو نظام الحكم، وفي المقابل يُسمَح بالترويج لخطاب الكراهية وبشكل واضح وصريح حينما تعود مرجعية هدفه لخدمة بعض الأطراف، ثم أنه لا توجد مواد خاصة ضمن قانون الإعلام فيما يخص خطاب الكراهية وآليات رصد المحتوى التحريضي على منصات التواصل الاجتماعي أو محاكم خاصة لملاحقة الجهة المحرضة ضد المختلف عنه. بمعنى أن القوانين عاجزة عن المواجهة بسبب انقسام القضاء وهذا ما يجعل الحد من خطاب الكراهية ومواجهته أمراً شبه مستحيل قانونياً، وبالتالي جعل المجتمع عرضة لهذا الخطاب دون قانون رادع، ويبقى تطبيق القانون مرهوناً باستقلالية القضاء والإعلام والحريات المدنية التي تبدو شبه غائبة.

أخيراً، ورغم كل هذا الخراب والشرخ والأمراض التي نخرت وتنخر بجسم السلم الأهلي والتعايش المشترك السوري، يبقى السؤال الحتمي حاضراً: هل لدينا اليوم وعي وشجاعة لإيقاف نيران الكراهية كما إيقادها؟. لعلنا نستحق فرصة جديدة يغيب فيها التحريض على الكراهية والتمييز الطائفي، فرصة نحن، السوريات والسوريين، بأمس الحاجة إليها ونكتبها بأيدينا وشجاعتنا ونقول: لا لخطاب الكراهية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…