الذكاء الاصطناعي سلاح الوعي الكوردي

د. محمود عباس

من الحبر إلى الخوارزمية، ومن الجبل إلى الفكرة، معركة الكورد اليوم ليست بالسيف، بل بالعقل.

حين كتب أحد الحاقدين عليّ متسائلًا بسخريةٍ: «أتستخدم الذكاء الاصطناعي؟» ابتسمت، لأنّ ما اعتبره سُبّةً أراه شرفًا فكريًا، ووسامًا على صدر كل من يسعى إلى النهوض من ركام الجهل. نعم، أستخدم الذكاء الاصطناعي، وأفخر بذلك، لأنه أعظم اختراعٍ أنتجه العقل الإنساني منذ اكتشاف الكتابة، ولأنه اليوم السلاح الأكثر نبلاً في مواجهة أدوات التزوير والتضليل التي استُخدمت لعقود ضد الشعوب الحرة، وفي مقدمتها الشعب الكوردي.

فالذكاء الاصطناعي لم يُخلق ليكون لعبة الترف، بل ليكون مرآة للوعي؛ يعري المتربصين، ويفضح المُزيّفين الذين اعتاشوا على تشويه التاريخ الكوردي. بفضله أصبح من الممكن أن تُكشف الأكاذيب التي كانت تتوارى خلف جدران الإعلام، وأن تُفكك لغة الحقد بمفرداتها ومنطقها. وما من أداةٍ اليوم قادرةٍ على إظهار التناقضات الفكرية للمستشرقين الجدد والعروبيين المأجورين كما يفعل هذا الإنجاز العلمي الفذّ.

لقد كتبت في الشهور الأولى لانتشار الذكاء الاصطناعي أنّ علينا، نحن الكورد، أن نُسارع إلى احتضانه، لأنه ثمرة التطور العقلي الإنساني، ومفتاح الدخول إلى العصر الجديد. فالتاريخ لا ينتظر المترددين. وإذا لم نلحق بركب الحضارة الرقمية، فسنبقى خارج ذاكرة الأمم التي تُعيد صياغة العالم بخوارزمياتها. إنّ العالم اليوم تحكمه شبكات لا جيوش، ومعادلات لا شعارات، وبيانات لا خطب، ومن يجهل هذه الحقيقة يجهل قوانين العصر.

لقد كانت الإمبراطوريات القديمة تُحكم بالسيوف، أما اليوم فيُعاد تقسيم الجغرافيا بالعقول والخوارزميات. وكوردستان التي تمزقت ذات يوم على موائد الدول العظمى، ما زالت تدفع ثمن غياب حضورها العلمي والتقني في مراكز القرار. فمن لم يمتلك أدوات المعرفة، سيظلّ موضوعًا في خرائط الآخرين، لا فاعلًا فيها.

من هنا، أدعو الكتّاب والمثقفين والسياسيين الكورد إلى أن يجعلوا من التكنولوجيا الحديثة، ومن الذكاء الاصطناعي خصوصًا، ركيزةً لنضالهم الثقافي والسياسي. فهي ليست مجرّد وسيلة، بل فضاءٌ جديد للوجود الإنساني، فيه تتشكل العقول وتُبنى السمعة وتُوجّه السياسات. إنّها ميدان حربٍ من نوعٍ آخر، حربٌ على الوعي والمعلومة، ومن لا يشارك فيها يُهزم بصمته.

علينا أن نتعلم كيف نحمل علم الخوارزميات كما نحمل القلم والفكر، لأنّ بها يمكننا اختراق الأروقة الدبلوماسية، والتأثير في الرأي العام العالمي، وتعريّة الحثالة التي تتربص بالشعب الكوردي، وتستعمل أدوات الدعاية لتشويه تاريخه وحراكه. فالمعركة لم تعد بالسلاح، بل بالمعرفة؛ ولم تعد في الجبال فقط، بل في فضاءات البيانات والمنصات الإعلامية.

نعم، أستخدم الذكاء الاصطناعي، لا لأُجامل به الواقع، بل لأفضح به النفاق، أستخدمه لكشف أولئك الذين يدّعون مساندة الكورد بينما يطعنون حراكهم القومي، والذين يتحدثون عن المواطنة وهم يعيدون إنتاج خطاب البعث القديم بأقنعة جديدة. أستخدمه لأفكك الخطاب المزدوج الذي يقول، “لسنا ضد الكورد، لكن ضد جماعة قنديل”، أو الذي يزعم أن كورد غربي كوردستان “مهاجرون” لا أصحاب أرضٍ وتاريخ. تلك اللغة الماكرة التي تُعيد إحياء منطق الأنظمة الشمولية في ثوبٍ مدني.

إنّ الذكاء الاصطناعي ليس أداةً لمحاكاة البشر، بل لتوسيع قدرتهم على التحليل والفهم والمساءلة، إنه امتداد للعقل في زمنٍ لم تعد فيه الحقيقة مِلكًا لأحد. فكما كان المطبعة يومًا ثورةً ضد الظلام، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم هو المطبعة الجديدة للعقل البشري، ومن لا يستخدمه سيُمحى صوته في صخب الخوارزميات التي تصنع الوعي العالمي.

إخوتي الكتّاب والمفكرين الكورد، لا تخشوا أدوات التطور، بل خذوها بأيديكم، اكتبوا بكل اللغات، وعبّروا في كل المنصات، لأن من يحتكر التكنولوجيا يحتكر الوعي، ومن يحتكر الوعي يملك السلطة. لا تتركوا هذه الثورة المعرفية تُستخدم ضدكم كما استُخدمت مصالح الدول الكبرى يومًا لتقسيم كوردستان وتهميش قضيتها. فالذكاء الاصطناعي سيصبح إمّا حليفنا أو خصمنا، وفق قدرتنا على التعامل معه.

لقد دخل العالم عصرًا جديدًا، عصر الدول العميقة الرقمية، حيث تُصنع الحقيقة في غرف البرمجة، وتُخاض الحروب بالبيانات، وتُرسم الحدود على شاشاتٍ لا خرائط. ومن لا يملك لغته في هذا الفضاء سيتحول إلى هامشٍ في نصّ الآخرين. لذلك، فإنّ استخدام الذكاء الاصطناعي ليس خيارًا، بل ضرورة وجودية لمن يريد أن يحيا في المستقبل لا في ظلال الماضي.

نعم، أستخدم الذكاء الاصطناعي، وأزداد إيمانًا بأنه ليس آلةً صمّاء، بل رفيق العقل في معركته الأخيرة ضد الجهل والتعصب. به نستطيع أن نعيد صياغة الخطاب، ونفضح الباطل بالحجة، ونمنح كوردستان صوتًا رقميًا يعلو فوق كل محاولات الطمس والإقصاء. ومن لا يفهم ذلك، فمشكلته ليست في الآلة، بل في خوفه من العقل نفسه.

إنّ الذكاء الاصطناعي لا يهدد الإنسان، بل يوقظه، إنه مرآته في لحظة الحقيقة، حين يرى كم كان صغيرًا أمام قدرته، وكم يمكنه أن يسمو حين يتحد عقله بالمعرفة، إنّ الآلة بلا إنسانٍ ضائعة، والإنسان بلا وعيٍ آلة، وبينهما، تقف كوردستان كفكرةٍ ناهضة، تمسك بزمام المستقبل، وتقول للعالم، لسنا صفحة من الماضي، بل معادلة في قادم الحضارة.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

13/10/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين المجتمع الأمريكي من اكثر المجتمعات بالعالم تنوعا من النواحي العرقية ، والثقافية ، والجنسية ، فبخلاف اهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر الذين عاشوا الحياة البدائية لقرون غابرة ، والذين انقرضوا بمرور الزمن ، هناك مئات الملايين من مهاجرين من عشرات الانتماءات القومية ، والثقافية لشعوب أوروبا ، وافريقيا ، وآسيا ، وامريكا اللاتينية ، وأستراليا تعاقدوا منذ…

زاكروس عثمان في النقاشات السياسية المتصلة بسوريا، يبرز خطاب إعلامي موجَّه يعتمد على مغالطات لغوية – سياسية تُستخدم لترسيخ رواية السلفية–التكفيرية حول “الدولة الواحدة” و“هيمنة الأغلبية”. ومن أخطر هذه المغالطات ما جاء به الإعلامي السوري فيصل القاسم في مقاله المنشور في صحيفة القدس العربي يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 بعنوان: «متى حكمت الأقليات في الديمقراطيات؟». يبدأ القاسم مقاله بهجوم حاد…

د. محمود عباس من أخطر الظواهر التي تعيد إنتاج عصور الجهل والظلام في واقعنا السوري الراهن، تلك الموجة المسعورة التي تستهدف المفكرين والكتّاب الأحرار، ومن بينهم الكاتب الكوردي (هوشنك أوسي) وسائر الأقلام الديمقراطية المستقلة، التي تكتب بضمير وطني حرّ، والتي ندينها بأشد العبارات. فالهجمة لا تصدر عن نقد فكري مشروع، بل تُشنّ بأدوات التكفير والتحريض من قبل فلول التطرف وبقايا…

جليل إبراهيم المندلاوي في الوقت الذي صار فيه المقعد النيابي أكبر من صاحبه، وأضيق من أن يتّسع لفكرة الديمقراطية، خرج علينا مشهدٌ يلخّص أزمة السلطة حين تنقلب على أصل معناها، ففي قضاء الدبس الهادئ، استيقظ الأهالي على عرض أكشن سياسيّ حيّ.. حيث اقتحم نائب منتخب بيت مواطن لأنه تجرأ وكتب تعليقا على فيسبوك، عجبا.. يبدو أن الديمقراطية عند البعض تتحسس…