بهرين أوسي
تظل مدينة رأس العين (سري كانيه) الواقعة في شمال سوريا (روج آفايي كوردستان) مثالًا صارخًا على المعاناة الإنسانية المستمرة والتغيير الديموغرافي القسري الذي تُمارسه القوات التركية والفصائل الموالية لها رغم سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 وتشكيل حكومة انتقالية لم يطرأ أي تغيير ملموس على واقع المدينة التي ما تزال تعيش تحت الاحتلال التركي المباشر وسط صمت دولي مريب
ولنقف معاً على الانتهاكات الجسيمة التي تتعرّض لها رأس العين (سري كانيي) والتي تجعلها واحدة من أكثر المناطق تهميشًا في السياق السوري على الرغم من خطورتها وأهميتها الاستراتيجية والديموغرافية لابد من أن نتحدث عن الوضع السياسي والأمني حيث توجد حكومة انتقالية بلا سلطة فبعد الإطاحة بنظام الأسد تشكلت حكومة انتقالية في سوريا لكن سلطتها في رأس العين تبقى شكلية بحتةفالمنطقة لا تزال خاضعة لسيطرة القوات التركية والفصائل المسلحة الموالية لها (المعروفة سابقًا باسم الجيش الوطني السوري)وهي فعليا لا جيش ولا وطني ولا سوري حيث تمثل مجموعة فصائل منفلتة تعمل بالارتزاق والتي اندمجت شكليًا ضمن هيكلية وزارة الدفاع السورية الجديدة لكنها لا تزال تتلقى الدعم والرواتب والتعليمات من أنقرة مباشرةً وهذا يجعل سلطة الحكومة الانتقالية ضعيفة وغير نافذة على الأرض خاصةً أنها لا تملك وصولًا كاملاً إلى تلك المناطق إلا عن طريق تركيا أو بالاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
تقوم هذه الفصائل بانتهاكات حقوقية ممنهجة من الترهيب إلى التغيير الديموغرافي بمساندة الراعي الرسمي لها وهي الدولة التركية حيث تواصل القوات التركية والفصائل الموالية لها ارتكاب انتهاكات جسيمة بحق السكان الذين ظلوا في المنطقة أو حاولوا العودة إليها وقد وثقت منظمات حقوقية محلية ودولية مئات الحالات من الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري خلال عام 2024 فقط، وثقت رابطة (تآزر) اعتقال ما لا يقل عن 217 شخصًا في رأس العين وريفها بينهم 10 نساء وطفل تم الإخلاء عن 82 شخصًا فقط بينما لا يزال 129 شخصًا في عداد المختفين قسريًا في سجون الفصائل الموالية لتركيا دون محاكمات عادلة أو شفافة ولا يسلم السكان من الابتزاز المالي والتعذيب حيث يتم إخلاء سبيل العديد من المعتقلين مقابل فدية مالية باهظة تخللتها عمليات تعذيب وضروب أخرى من المعاملة القاسية بما في ذلك انتهاكات ذات طبيعة جنسية بهدف ترويع السكان ودفعهم إلى الهرب من المنطقة وترك ممتلكاتهم خاصة إذا كانوا من الكرد وتمتد سياسة الابتزاز لتطال من تبقى من السكان حيث أفادت تقارير محلية بقيام الفصائل (مثل فرقة الحمزات) بفرض إتاوات على المزارعين بمقدار 7 أكياس قمح لكل فلاح كمبلغ حماية مما يزيد من إفقارهم وإذلالهم
وهو ما يسبب التغيير الديموغرافي القسري هو السياسة الممنهجة لتفريغ المنطقة من سكانها الأصليين واستبدالهم بسكان موالين لتركيا حيث أجبر آلاف المدنيين على ترك منازلهم تحت وطأة العنف وانعدام الأمان بينما تم توطين عائلات من مناطق أخرى موالية لأنقرة في مساكنهم هذه العملية توصف على نطاق واسع بأنها تغيير ديموغرافي ممنهج يخالف القانون الدولي الإنساني
وللوصول إلى صورة واضحة للتغير الديموغرافي في رأس العين (سري كانيه) بعد الاحتلال التركي ومن خلال منظمات تعمل في مجال توثيق الانتهاكات والجرائم ورصد وتوثيق التغيير الديمغرافية نصل الى ما يلي:
المجموعة السكانية من الكرد كان
عدد السكان قبل الاحتلال (2019)
ما يقارب 70,000 أما بعد الاحتلال في (2024) انخفاض عدد السكان الى 42 شخص فقط حيث بلغت نسبة التغير 99.94%
المجموعة السكانية من العرب (السكان الأصليون) فكان العدد قبل الاحتلال (2019 ) ما يقارب 30,000
أما عدد السكان بعد الاحتلال (2024) فهوغير معروف فقد اصبحوا أقلية الآن
حيث التغير أدى إلى انخفاض حاد في اعدادهم وتم توطين عائلات وافدة
لم يكونوا موجودين قبل الاحتلال (2019) اما تعدادهم بعد الاحتلال (2024) فوصل لآلاف العائلات وهي زيادة كبيرة تصل إلى ما يقارب100,000 عائلة وهو تعداد متغير بشكل مصطنع اي اننا نواجه تغيير ديموغرافي كامل
حيث سجل تفريغ قرى كاملة من سكانها الاصليين من ايزيديبن وسريان وعرب وكرد وتوطين عائلات من جنسيات عربية إضافة الى عائلات سورية نازحة
اما عن الوضع الإنساني فحدث ولا حرج نزوح قسري وانهيار كامل للخدمات واقتصاد مبني على النهب حيث لا يزال أكثر من 85% من سكان رأس العين الأصليين مهجرين قسرًا منذ أكثر من خمس سنوات يعيشون في ظروف قاسية داخل المخيمات ومناطق النزوح محرومين من العودة إلى بيوتهم أو استعادة ممتلكاتهم التي تعرض الكثير منها للتدمير أو الاستيلاء وحتى الآن لم تتخذ الحكومة الانتقالية أي خطوات عملية لإعادة المهجرين أو ضمان حقوقهم في السكن والملكية
أما الخدمات الأساسية في المدينة فتشهد انهيارًا تاما لا مياه نظيفة ولا كهرباء مستدامة ولا منظومة صحية فاعلة وهذا الإنهيار ليس عشوائياً بل هو نتيجة لإدارة فاسدة ومقصودة. فالمؤسسات المدنية التي أنشئت تحت إشراف الاحتلال أصبحت بيئة خصبة للفساد والمحسوبيات مما يزيد من معاناة السكان المتبقين كما أن الاشتباكات الدائمة بين الفصائل الموالية لتركيا على مناطق النفوذ وأرباح النهب مثل نهب المحاصيل الزراعية والممتلكات، تجعل حياة المدنيين جحيماً مستعراً وتُبقي الاستثمار والحياة الاقتصادية شبه معدومة
إن ما يحدث في رأس العين (سري كانيه) لا يعد مجرد انتهاكات عابرة بل يشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفقًا للقانون الدولي فسياسات التغيير الديموغرافي القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب ومنع السكان من العودة إلى ديارهم هي جميعها أفعال محظورة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة ولوائح لاهاي 1907.
كقوة احتلال، تتحمل تركيا المسؤولية الأساسية عن ضمان سلامة ورفاهية السكان المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها وفقًا للمادة 43 من لوائح لاهاي إلا أن التقارير تؤكد أن تركيا لم تتخذ أي إجراءات ملموسة لوقف هذه الانتهاكات أو محاسبة المرتكبين بل إنها تغض الطرف عنها أو تتغاضى عنها.
السيناريو الجاري في رأس العين يعيد تكرار نفس النموذج الذي طبق في عفرين بعد اجتياحها في 2018 تحت عملية ما سمي (غصن الزيتون) عمليات سلب ونهب تهجير قسري فرض اللغة والمناهج التركية وتوطين عائلات وافدة هذه السياسات ليست عشوائية بل هي جزء من استراتيجية جيوسياسية توسعية تستخدمها أنقرة لفرض نفوذ طويل الأمد في شمال سوريا تحت غطاء المناطق الآمنةبينما الواقع يُظهر أنها مناطق تخضع لحكم عسكري غير خاضع لأي رقابة قانونية أو محاسبة دولية.
وعلى الرغم من توثيق مئات الحالات من الانتهاكات الجسيمة التي قد ترقى إلى جرائم حرب لم تفتح أي تحقيقات مستقلة أو دولية جادة بشأن ما يحدث في رأس العين ( سري كانيه ) كما لم يتم اتخاذ أي إجراءات فعالة من قبل المجتمع الدولي للضغط على تركيا والفصائل الموالية لها لوقف ممارساتها أو محاسبة المتورطين
هذا الصمت الدولي ليس فقط غير مبرر بل هو شكل من أشكال التواطؤ الذي يسمح باستمرار المعاناة الإنسانية ويهدد أي فرصة حقيقية للسلام المستقبلي في سوريا حيث تستفيد تركيا من التناقضات الجيوسياسية الدولية وتواصل مشروعها التوسعي تحت غطاء صفقات مع قوى دولية متنفذة
على الرغم من أن عفرين تلقى اهتمامًا إعلاميًا أكبر إلا أن معاناة رأس العين (سري كانيه) لا تقل أهمية أو خطورة. الاهتمام بـ رأس العين ضروري حيث نشهد استمرار الاحتلال على عكس بعض المناطق الأخرى،لا تزال رأس العين ( سري كانيه ) تحت سيطرة تركية مباشرة وغير منقوصة حتى بعد سقوط النظام وشهدت تغيير ديموغرافي كامل حيث ان نسبة التهجير التي تصل إلى 85% من سكانها الأصليين وتحول الكرد إلى أقلية ضئيلة (42 شخصًا فقط) هو صفعة للضمير العالمي أن استمرار هذه الانتهاكات هو اختبار حقيقي لإرادة المجتمع الدولي في الدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان التي يتغنى بها.
وهنا من المهم فضح الاحتلال التركي و كشف التناقض بين الادعاءات التركية بـتقديم الخدمات وتحقيق الأمن وبين الواقع المأساوي على الأرض حيث الفساد والابتزاز والنهب هو القانون السائد والمساعدات إن وجدت فهي موجهة لتجميل صورة الاحتلال وخدمة الوافدين الجدد بينما يُحرم منها السكان الأصليون المتشبثون بأرضهم ويعانون من سياسة التفقير والإذلال المنظم
سعياً نحو عدالة مستحقة ولإعادة الحقوق ورفع الظلم وإيقاف الانتهاكات فرأس العين (سري كانيه) ليست مجرد مدينة محتلة بل هي نموذج صارخ للإفلات من العقاب وللمشروع التوسعي الذي يستهدف إعادة تشكيل البنية المجتمعية للسوريين بقوة السلاح معاناة أهلها لم تتوقف بل استمرت وتعمقت رغم انتهاء الحرب في معظم أنحاء سوريا إن إنهاء هذه المأساة يتطلب تحركًا جادًا وفوريًا حيث يجب على المجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الضغط على أنقرة للوفاء بالتزاماتها كقوة احتلال والبدء في سحب قواتها والفصائل الموالية لها
وضرورة إنشاء آلية دولية مستقلة للتحقيق في الجرائم المرتكبة في رأس العين ومحاسبة جميع المسؤولين عنها بما يضمن حق العودة الطوعية والآمنة والسليمة لكل نازح إلى مدينته واستعادة ممتلكاته مع تعويض المتضررين اضافة لضرورة توفير دعم إنساني كبير ومستدام للنازحين من رأس العين في المخيمات وتحسين ظروفهم المعيشية المزرية.
لا يمكن بناء سلام حقيقي ومستدام في سوريا دون استعادة حقوق أهل رأس العين (سري كانيه) وكل المناطق المحتلة ودون تحقيق عدالة انتقالية شاملة تكشف مصير المختفين قسريًا وتضمن عدم تكرار هذه الجرائم مرة أخرى.