سوريا الجديدة… بعقلية قديمة: حين يُلغى نوروز ويُستبقى الإقصاء

ماهيـن شيخاني

مدخل: وجوه تتبدّل… وعقلية لا تموت

بعد أكثر من عقدٍ من الحرب، وبعد أن تغيّرت الخرائط والوجوه والولاءات، ما زالت سوريا، التي يُقال إنها “جديدة”، تُدار بذات العقلية القديمة التي أفرغت الوطن من روحه.

مرسوم الرئيس أحمد الشرع الأخير، المتعلّق بتحديد أيام العطل الرسمية، لم يكن مجرّد إجراء إداري روتيني كما حاول الإعلام الرسمي تصويره، بل مرآة صافية تعكس استمرار منطق الإقصاء الذي يتخفّى تحت لغة الوحدة الوطنية.

 

ففي الوقت الذي تمّ فيه تثبيت كل الأعياد الدينية المعروفة، غاب عن القائمة عيد واحد كان يمكن أن يرمز إلى التعدد الحقيقي في هذا البلد: عيد نوروز، عيد الربيع والحرية، والعنصر الأقدم في الذاكرة الجماعية للكورد وسكان الشرق القديم.

وهكذا، مرّ القرار كما تمرّ آلاف المراسيم، لكنه ترك في النفوس مرارة قديمة تتجدد مع كل تجاهلٍ متعمّد للآخر.

نوروز… عيد الإنسان قبل القومية

عيد نوروز ليس شعاراً سياسياً ولا اختراعاً حزبياً.

هو عيد الحياة، الفجر الذي يعلن انتهاء الشتاء وبداية الضوء.

في الأسطورة الكوردية، أشعل “كاوا الحداد” النار على الجبل ليبشّر بزوال الظلم، وفي الواقع، أشعل الكورد هذه الشعلة منذ آلاف السنين، لتبقى رمزاً للحرية والكرامة والحق في الاختلاف.

 

من مهاباد إلى هولير، ومن آمد إلى قامشلو، يحتفل الناس بهذا العيد لأنه يشبههم: عنيد، متجدد، لا يموت.

ولأن سوريا ليست جزيرة معزولة عن التاريخ، فإن تجاهل عيدٍ كهذا لا يعني حذف يومٍ من التقويم، بل إلغاء فصلٍ كامل من الذاكرة الوطنية.

 

إنّ نوروز ليس ملكاً للكورد وحدهم، بل هو فرصة للدولة أن تعترف بأنها متعدّدة، وأنّ الربيع السوري الحقيقي يبدأ حين تُضاء كل شموع مكوناته لا حين تُطفأ إحداها.

 

المرسوم… بين الشكل البريء والجوهر المريض

قد يبدو المرسوم في ظاهره خطوة تنظيمية، لكنه في عمقه يعيد إنتاج ذات الهرم المقلوب الذي حكم سوريا منذ الاستقلال:

هوية رسمية واحدة تُفرض على الجميع، بينما تُقصى الرموز الثقافية للمكوّنات الأخرى إلى الهامش.

إنه الامتداد الطبيعي لسياسة قديمة بدأت حين فرض النظام السابق “عيد الأم” في 21 آذار ليغطي على نوروز، وكأن الاعتراف بالعيد الكوردي خطر على وحدة البلاد.

هي ذات الذهنية التي تخاف من الأغنية الكوردية في الإذاعة، ومن الزي الكوردي في المهرجانات، ومن اللغة الكوردية في المدارس، وتعتقد أن التعددية ضعف لا ثراء.

لكن الحقيقة أن الدول لا تبنى بالخوف من التنوع، بل بالثقة في أنه هو ما يمنحها الديمومة.

 

الأبعاد السياسية والاجتماعية: سوريا الجديدة بعقلية الأمس

سياسياً، القرار يُظهر أن “سوريا الجديدة” لم تُشفَ بعد من عقدة الهوية الأحادية.

الوجوه تبدّلت، لكن الخطاب نفسه ما زال يُدار من ذات المركز، بذات الخوف من الآخر، وذات الوهم بأن الوطنية تمرّ عبر إلغاء الفوارق لا عبر احترامها.

 

اجتماعياً، يعيد المرسوم إحياء شعور الإقصاء لدى الكورد، الذين قاتلوا ودافعوا وقدّموا آلاف الشهداء من أجل أرضٍ يقال لهم اليوم إنها ليست عيدهم.

فكيف يمكن لمواطن أن يشعر بالانتماء لوطنٍ يرفض الاعتراف حتى بعيده..؟.

 

رمزياً، هو طمس متعمّد للذاكرة الجماعية، ومحاولة لإعادة رسم الوعي الوطني بلونٍ واحد، كأنّ التعدد عيبٌ يجب إخفاؤه لا قيمة يجب الاحتفاء بها. فحين تختزل الدولة معنى “الوحدة الوطنية” في وحدة الشكل، فإنها تقتل روح الانتماء في قلوب من يفترض أن يكونوا شركاءها في هذا الوطن.

سوريا الجديدة تحتاج عقلاً جديداً

لا تُبنى الأوطان بالمراسيم ولا بالمحظورات، بل بالإيمان بالإنسان.

وسوريا التي أنهكتها الحرب لا تحتاج إلى شعارات الوحدة الزائفة، بل إلى شجاعة الاعتراف بأن فيها قومياتٍ متعددة، وثقافاتٍ متداخلة، وألواناً لا يمكن صهرها في قالبٍ واحد.

إنّ الاعتراف بعيد نوروز ليس منّةً على الكورد، بل هو ردّ اعتبار وطني، ومؤشر على أن الدولة بدأت تفهم معنى المواطنة الحديثة التي تقوم على المساواة والاحترام المتبادل.

إنه الحدّ الأدنى من العدالة الرمزية بعد عقودٍ من التهميش الثقافي والسياسي.

 

خاتمة: لا وطن بلا اعتراف

سوريا التي خرجت من تحت الأنقاض تحتاج إلى وعي جديد لا يُقصي أحداً.

فالوطن الذي لا يرى أبناءه جميعاً، لن يراه أحد.

إنّ تجاهل نوروز اليوم يعني تجاهل جزءٍ أصيل من ذاكرة البلاد نفسها،

ويعني أن سوريا “الجديدة” ما زالت تُدار بعقلٍ قديم،

يخاف من النور… فيُبقي نفسه في الظل.

 

ولأن التاريخ لا يرحم، فإنّ الأمم التي لا تتعلّم من أخطائها، تظلّ تدور في حلقةٍ مفرغة من الإنكار والعجز.

أما سوريا، فإن خلاصها لن يكون بطمس نوروز، بل بالاحتفاء به كرمزٍ لبداية ربيعٍ وطنيٍّ جديد، ربيعٍ يعترف بأن التعدد ليس نقيض الوحدة، بل شرطها الأصيل.        

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين المجتمع الأمريكي من اكثر المجتمعات بالعالم تنوعا من النواحي العرقية ، والثقافية ، والجنسية ، فبخلاف اهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر الذين عاشوا الحياة البدائية لقرون غابرة ، والذين انقرضوا بمرور الزمن ، هناك مئات الملايين من مهاجرين من عشرات الانتماءات القومية ، والثقافية لشعوب أوروبا ، وافريقيا ، وآسيا ، وامريكا اللاتينية ، وأستراليا تعاقدوا منذ…

زاكروس عثمان في النقاشات السياسية المتصلة بسوريا، يبرز خطاب إعلامي موجَّه يعتمد على مغالطات لغوية – سياسية تُستخدم لترسيخ رواية السلفية–التكفيرية حول “الدولة الواحدة” و“هيمنة الأغلبية”. ومن أخطر هذه المغالطات ما جاء به الإعلامي السوري فيصل القاسم في مقاله المنشور في صحيفة القدس العربي يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 بعنوان: «متى حكمت الأقليات في الديمقراطيات؟». يبدأ القاسم مقاله بهجوم حاد…

د. محمود عباس من أخطر الظواهر التي تعيد إنتاج عصور الجهل والظلام في واقعنا السوري الراهن، تلك الموجة المسعورة التي تستهدف المفكرين والكتّاب الأحرار، ومن بينهم الكاتب الكوردي (هوشنك أوسي) وسائر الأقلام الديمقراطية المستقلة، التي تكتب بضمير وطني حرّ، والتي ندينها بأشد العبارات. فالهجمة لا تصدر عن نقد فكري مشروع، بل تُشنّ بأدوات التكفير والتحريض من قبل فلول التطرف وبقايا…

جليل إبراهيم المندلاوي في الوقت الذي صار فيه المقعد النيابي أكبر من صاحبه، وأضيق من أن يتّسع لفكرة الديمقراطية، خرج علينا مشهدٌ يلخّص أزمة السلطة حين تنقلب على أصل معناها، ففي قضاء الدبس الهادئ، استيقظ الأهالي على عرض أكشن سياسيّ حيّ.. حيث اقتحم نائب منتخب بيت مواطن لأنه تجرأ وكتب تعليقا على فيسبوك، عجبا.. يبدو أن الديمقراطية عند البعض تتحسس…