صلاح عمر
تمهيد: حين تنحني الحقيقة أمام رياح المصالح
في زمنٍ تتقاذفه العواصف، ويُعاد فيه تشكيل الخرائط بدماء الشعوب لا بأقلام الساسة، يطلّ علينا مشهدٌ جديد من مشاهد المأساة الكردية في سوريا — مأساة لم تولد اليوم، بل تمتدّ جذورها إلى قرنٍ من الإنكار والتهميش، منذ أن حُذفت كردستان من خرائط سايكس–بيكو، وابتلع الآخرون صوتها وحقها واسمها.
لكنّ المأساة اليوم ليست فقط في مؤامرات الآخرين، بل في انحناء بعض من حملوا رايتها أمام عاصفة الحسابات الضيقة، والتنازل عن جوهر الحلم الكردي الذي صاغته دماء الشهداء وكفاح المناضلين في السجون والجبال وساحات الاغتراب.
حين يخرج القيادي في حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) السيد صالح مسلم ليعلن بوضوح أن مشروعهم السياسي لم يعد فيدراليًا بل “إدارة محلية لا مركزية ما دون الفيدرالية”، فإن هذا لا يمكن أن يُقرأ بوصفه تطورًا في الفكر السياسي الكردي، بل تراجعًا خطيرًا عن جوهر المشروع القومي الكردي في سوريا، الذي كان ولا يزال يتمحور حول الحق في إدارة الذات ضمن نظام فيدرالي ديمقراطي تعددي لا مركزي.
مؤتمر نيسان 2025… لحظة أمل مهدورة
لقد شهدنا جميعًا في كونفرانس 26 نيسان من هذا العام محاولةً جادة لإعادة إحياء الأمل الكردي في الوحدة والموقف المشترك، برعاية أمريكية وفرنسية، ودعم مباشر من إقليم كردستان العراق بقيادة الرئيس مسعود بارزاني، الذي لم يتخلّ يومًا عن دعمه لوحدة الصف الكردي في سوريا.
كان المؤتمر جامعًا بحق، إذ ضمَّ أحزاب المجلس الوطني الكردي (ENKS) وأحزاب الإدارة الذاتية (PYD ومكوناته)، إلى جانب منظمات المجتمع المدني والشباب والمرأة ووجهاء المجتمع الكردي. لقد شكّل هذا الجمع لوحةً نادرةً من التلاقي الكردي الذي افتقدناه طويلاً، وكان يمكن أن يكون نقطة تحول تاريخية في مسار القضية الكردية في سوريا.
خرج المؤتمر بمخرجات وطنية واضحة، من أبرزها التأكيد على أن الحقوق القومية للشعب الكردي في سوريا لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار الاتحاد الاختياري، أي الفيدرالية، بوصفها النموذج الأمثل لضمان العدالة، والمشاركة المتساوية، وحماية التنوّع السوري في ظل نظام ديمقراطي تعددي لا مركزي.
لكن، ومع مرور الأسابيع، بدأ الخطاب الرسمي للإدارة الذاتية يتراجع تدريجيًا عن هذا المبدأ، حتى وصل إلى لحظة التصريح الصادم من السيد صالح مسلم، الذي أعلن فيها عمليًا إلغاء الفيدرالية من القاموس السياسي للإدارة الذاتية.
صراحة أم خيانة؟ بين وضوح القول وضياع البوصلة
لا شك أن السيد مسلم يُعدّ من أكثر قيادات الإدارة الذاتية صراحة وجرأة في التعبير عن قناعاته، لكن الصراحة في الموقف لا تعني الصواب في الاتجاه.
فما قيمة أن نكون صريحين في التنازل عن حلمٍ صاغه التاريخ والدمّ؟ وما جدوى أن نكون واضحين في الانحراف عن المسار القومي الذي دفع الشعب الكردي ثمنه غاليًا عبر سبعة عقود من النضال والاعتقال والاغتيال والتشريد؟
إن التخلي عن مطلب الفيدرالية لا يمكن تفسيره إلا في سياق الرضوخ لتوازنات القوى الدولية والإقليمية، ومحاولة إرضاء النظام السوري أو بعض القوى التي تخشى من ترسيخ النموذج الكردي الفيدرالي في المنطقة.
لكن الحقيقة أن من يتخلى عن الفيدرالية اليوم، إنما يتخلى عن روح الثورة نفسها، لأن جوهر الثورة الكردية في سوريا لم يكن طلب سلطة أو إدارة مؤقتة، بل كرامة وهوية واعتراف دستوري بحق تقرير المصير ضمن وطنٍ سوري تعددي لا مركزي.
الفيدرالية ليست شعارًا… إنها فلسفة وجود
لقد حاول البعض تسويق فكرة أن “الإدارة المحلية” تكفي لضمان حقوق الكرد، وكأن الفيدرالية ترف سياسي يمكن الاستغناء عنه.
لكن الفيدرالية ليست شعارًا حزبيًا ولا مطلبًا تفاوضيًا يمكن مقايضته؛ إنها فلسفة حكم ومبدأ إنساني يقوم على الاعتراف بالتعدد، واحترام الخصوصيات القومية والثقافية، وضمان التوزيع العادل للسلطة والثروة.
الفيدرالية، ببساطة، هي ترجمة قانونية لمفهوم الشراكة الوطنية الحقيقية، وهي التي تمنح الكردي شعور الانتماء إلى وطنٍ يعترف به، لا إلى دولةٍ تتغافل عن وجوده.
لقد خاض الكرد منذ تأسيس أول حزب سياسي لهم في سوريا عام 1957، بقيادة نورالدين زازا وعثمان صبري، معارك فكرية وتنظيمية وسياسية من أجل تحقيق هذا الهدف.
وكانت الفيدرالية دومًا هي المآل المنطقي للنضال القومي الكردي، لأنها تجمع بين الكرامة القومية والوحدة الوطنية، وتضمن التعايش العادل بين مكونات الشعب السوري.
فالتنازل عنها اليوم يُعدّ خيانة رمزية لدماء مناضلين قدموا الغالي والنفيس في سبيل قضيتهم القومية، مثل مشعل التمو ونصرالدين برهك. كما لا يمكن نسيان آلاف الشهداء الكرد الذين سالت دماؤهم في الدفاع عن مناطقنا وحماية شعبنا من إرهاب داعش والفصائل الموالية لتركيا، فهؤلاء كانوا وما زالوا رمزًا للتضحية والفداء في سبيل سوريا ديمقراطية، فيدرالية، تعددية ولا مركزية.
بين خطاب أوجلان ورسالة التاريخ
لا يمكن تجاهل أن تصريحات صالح مسلم جاءت بعد أيام من تسريب رسالة من عبدالله أوجلان، يقال إنه دعا فيها إلى عدم المطالبة بأي شكل من أشكال الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو الدولة الوطنية، ودعا بدلاً من ذلك إلى الاندماج في الدولة السورية الجديدة والمساهمة في بنائها الديمقراطي بقيادة أحمد الشرع.
سواء كانت الرسالة صحيحة أو لا، فإن تأثيرها على الخطاب السياسي للإدارة الذاتية كان واضحًا وسريعًا، حتى بدا وكأنّ الموقف الكردي يُعاد صياغته خارج الحدود، وبإملاءات لا تراعي خصوصية الواقع السوري ولا تضحيات أبناء كردستان سوريا.
إننا لا نرفض فكر أوجلان ولا نغفل أثره، لكن القضية الكردية في سوريا ليست فرعًا من معادلة تركية، بل قضية شعبٍ يعيش على أرضه التاريخية وله خصوصيته السياسية والاجتماعية والثقافية.
ولا يحقّ لأيّ جهةٍ أن تفرض على هذا الشعب أن يتنازل عن حقه الدستوري في الفيدرالية مقابل وعودٍ غامضة بالاندماج في “دولة جديدة” لم تولد بعد.
مسؤولية المجلس الوطني الكردي… وواجب المصارحة
في خضم هذا الغموض، تبرز مسؤولية المجلس الوطني الكردي (ENKS) كممثل سياسي متجذّر في الشارع الكردي، في أن يُبيّن موقفه بوضوح أمام الجماهير الكردية.
فالشعب يريد أن يعرف:
هل ما زال المجلس متمسكًا بمبدأ الفيدرالية كخيار قومي واستراتيجي؟
أم أنه أيضًا رضخ لضغوط اللحظة السياسية، وبدأ يتحدث بلغة “الإدارة المحلية”؟
إن الصمت في مثل هذه اللحظات جريمة سياسية، لأن التاريخ لا يرحم المترددين، والشعوب لا تغفر لمن يتخاذل عن أحلامها.
وإذا كان هناك من يسعى اليوم لتذويب القضية الكردية في مشاريع غامضة أو شعارات فضفاضة عن “اللامركزية الإدارية”، فإن المجلس الوطني الكردي مطالبٌ أكثر من أي وقتٍ مضى بأن يرفع صوته:
نحن أصحاب مشروع قومي واضح، نريد فيدرالية ديمقراطية تعددية لا مركزية تضمن حقوق الكرد وكل المكونات السورية.
نداء الوعي: لا نريد وطنًا بدون كرامة ولا سلامًا بدون عدالة
إننا لا نحارب لأجل خريطة جديدة، بل لأجل كرامةٍ تُحترم وحقوقٍ تُصان.
لقد تعب الكرد من أن يكونوا ورقةً في يد الآخرين، ومن أن تُستخدم تضحياتهم سلّمًا لمصالح الغير.
إن الفيدرالية ليست مشروع تقسيم، بل مشروع بقاء مشترك على أساس العدالة والمواطنة المتساوية.
من يتخلى عنها يتخلى عن روحه، ومن يفرّط بها اليوم سيكتشف غدًا أنه تنازل عن آخر ما تبقّى من معنى لوجوده السياسي.
يجب أن نستعيد الخطاب الكردي الصادق، الثوري، الواضح، الذي لا يساوم على الحقوق، ولا يختبئ خلف مصطلحاتٍ مبهمة كـ”الإدارة المحلية” أو “اللامركزية البسيطة”.
فالشعوب لا تحيا بالمجاملات، بل بالمواقف. والتاريخ لا يخلّد المراوغين، بل أولئك الذين ساروا على الطريق الأصعب… طريق الحقيقة.
خاتمة: وصية الشهداء لا تُشترى بالسياسة
في النهاية، سيبقى السؤال مفتوحًا أمام كلّ كردي وطنيّ شريف:
هل نريد أن نُكتب في التاريخ كشعبٍ ساوم على كرامته، أم كشعبٍ صان وصيّة شهدائه؟
الفيدرالية ليست مطلبًا سياسيًا عابرًا، بل هي تجسيدٌ لوصية التاريخ ودماء الشهداء، وهي الطريق الوحيد لبناء سوريا حرة ديمقراطية تعددية لا مركزية، تضمن حقوق الكرد والعرب والآشور والسريان وسائر المكونات دون تمييز.
أما أولئك الذين يحاولون اليوم تجميل التراجع تحت عنوان “الواقعية السياسية”، فعليهم أن يتذكروا:
الواقعية لا تكون بالتنازل عن المبادئ، بل بالإصرار على تحويلها إلى واقع.
فمن يتراجع عن الفيدرالية، يتراجع عن نفسه، ومن يخون حلمها، يخون ذاكرة أمةٍ ما زالت تنزف على أمل أن ترى يومًا شمس الحرية تشرق فوق جبال كردستان سوريا.