عاصم أمين
بعد أن تحوّلت وسائل الإعلام إلى جزء عضوي من الحياة السياسية والاجتماعية في العالم العربي، لم تعد مجرد قنوات ومؤسسات ناقلة للخبر، بل سلطة رمزية تصوغ وتُنسج المزاج العام وتعيد إنتاج الشرعية للسلطات القائمة. فالمواطن العربي لا يتلقى الأحداث والظواهر كما هي في واقعها، بل كما يتم عرضها وترتيبها وتنسيقها في نشرات الأخبار أو عبر الشاشات والمنصات، حيث تندمج اللغة والصورة مع مصالح الأنظمة والتحالفات الإقليمية، لينشأ في النهاية مزاج و وعي جماعي يتجاوز الخبر العابر ليصبح رؤية للعالم “رأي عام “. وهنا يظهر أن الإعلام في المنطقة ليس مرآة محايدة للواقع، بل أداة أساسية لتثبيت السلطة أو لتنازعها.
فالخبر في السياق الاعلام العربي لا يكتسب أهميته من ذاته، بل من موقعه في صراع الروايات. حين يتصدر حدث سياسي في بلد بعينه العناوين، بينما تُدفن أخبار الانتهاكات أو الأزمات الاجتماعية في الهوامش، فإن ما يسمى ” الرأي العام ” يُعاد تشكيله وفق أجندة تخدم مراكز القوة. وقد اختبرت المجتمعات العربية هذه الدينامية خاصة خلال الثورات والاحتجاجات التي سميت ” بالربيع العربي ” حين احتكرت القنوات الرسمية السردية وحاولت تحويل النقاش من مطالب ” الحرية والعدالة والتعددية والمساواة والمشاركة الديمقراطية…” إلى هواجس الأمن والاستقرار. هكذا يُضبط المزاج العام عبر التكرار والانتقاء، فيتحول الإعلام من ناقل للوقائع إلى ” مهندس للوعي “.
وفي العالم العربي ومحيطه الاقليمي ، يتضح بصورة جلية كيف أن الخطاب الإعلامية ليس مسألة تقنية مستقلة بذاتها، بل هو عمل أيديولوجي ومهندس بامتياز. فحين تُسمى الثورات “فوضى“، أو يُختزل الفساد في كلمة “تحديات“، نكون أمام تطويع اللغة لخدمة سردية ورؤية السلطة. وعلى الجانب الآخر، حين تُشيطن المعارضة او الحراك الشعبي، أو تُرسم صور نمطية عنها كخطر دائم على وحدة الدولة ،فلا معنى لهذا الخطاب سوى إنتاج الشرعية للنظام القائم. وعليه تصبح نشرات الأخبار والتغطيات الميدانية أدوات لإدامة الهيمنة، حيث يُعاد ترسيم الحدود بين المقبول والمرفوض، بين الوطني والخائن، وفق القاموس الوطني التي تهندسه السلطة نفسها.
وليس بالإمكان فصل هذا المشهد عن البنية الاقتصادية والسياسية للإعلام العربي. فالقنوات” الرسمية” في كثير من الدول ليست سوى أذرع مباشرة للأنظمة، أما القنوات الخاصة الكبرى فهي في الغالب مملوكة لرؤوس أموال مرتبطة بالسلطة أو بدول إقليمية تنازع نفوذاً على الساحة (الاعلام الذي يعمل في دمشق بعد رحيل النظام السابق كمثال) وحتى في اللحظات التي يُرفع فيها شعار الاستقلالية، تظل الاعتبارات التمويلية والإعلانية محدداً أساسياً لما يُبث ويُحجب. وهكذا يجد المتلقي نفسه بين خطاب رسمي متخشب وخطاب تجاري مُسيس، يتماثلان في إعادة إنتاج الاستقرار الوهمي القائم وتهميش كل ما يهدد بنيته.
لكن الجمهور العربي ليس متلقياً سلبياً بالكامل. فقد أظهرت ثورات العقد الماضي الذي بدأت شرارتها من تونس، أن الرأي العام العربي بمقدوره الانفلات من قبضة الإعلام التقليدي التابع للسلطة، مستفيداً من منصات التواصل الاجتماعي(كالفيس بوك ، والتويتر ، واليوتيوب وغيرها..) لتبادل المعلومات وبناء سرديات بديلة. غير أن هذه الفضاءات الرقمية لم تبق خارج السيطرة طويلاً، إذ سرعان ما نجحت السلطات، ومعها الشركات الكبرى، في إعادة احتوائها عبر الرقابة المباشرة أو عبر الخوارزميات التي تخلق فقاعات مغلقة وتعيد إنتاج الانقسام المجتمعي. فتحولت الحرية الرقمية الموعودة إلى شكل جديد من الضبط الناعم، حيث يتم توجيه المستخدم وفق ما يخدم السوق أو السلطة.
بهذا المعنى، فإن الرأي العام في المنطقة ليس نتاجاً عفوياً ” لإرادة الجماهير “، بل نتاج صراع دائم بين أجهزة إعلامية ضخمة تفرض سردياتها وتوجهاتها وجمهور يسعى لاختراقها وتجاوزها. وما يتكرر في الشاشات بمختلف انواعها يتحول سريعاً إلى بديهة، حتى وإن كان بناءً دعائياً. تكمن قوة هذه السرديات في أنها تقدّم نفسها كصوت الحقيقة الوحيد، بينما يُقصى كل ما يخالفها تحت مسمى مؤامرة أو خطاباً متطرفاً. وهكذا يغدو الرأي العام انعكاساً لإرادة السلطة وتوجهاتها لما يجب ان يكون عليه ، أكثر مما هو مرآة لتطلعات الشعب والمجتمع.
غير أن التجربة العربية تكشف أيضاً أن السيطرة ليست مطلقة. ففي لحظات تاريخية، انفلت الرأي العام من قبضة الإعلام وأجبر السلطات على التراجع، كما حدث في أيام الثورات الأولى حين تراجعت بعض القنوات عن خطابها التقليدي لتواكب ضغط الشارع، لكن هذه اللحظات الاستثنائية لم تسطع إلغاء القاعدة، بل أكدت أن الإعلام في العالم العربي هو جهاز لإعادة إنتاج السلطة والحفاظ على ديمومتها، ما لم يُكرهه على التغيير بفعل ضغط جماهيري واسع أو تبدل موازين القوى.
إن إدراك كيفية تشكّل الرأي العام في العالم العربي عبر الإعلام يقودنا إلى استنتاج حاسم: أن الإعلام هنا ليس مجرد وسيلة ناقلة، بل أحد أعمدة السلطة ذاتها. فحين تُمسك الدولة أو رأس المال بمفاتيح البث والارسال ، فإنها تُمسك بالضرورة بمفاتيح الوعي الجمعي. وإذا كان الرأي العام يبدو أحياناً سلطة مضادة، فإنه في الغالب يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج السلطة القائمة، عبر إعادة إنتاج خطابها وتثبيت حدود الممكن في الوعي الجمعي. ومن هنا يصبح التحدي الحقيقي ليس فقط في تفكيك خطاب الإعلام، بل في تحرير بنيته من قبضة السياسة والمال، ليفتح أفقاً يرى فيه المجتمع العربي ذاته بعيداً عن مرايا مُصقولة تخدم أصحاب النفوذ.