نَوْرُوز ليس عيداً عربياً

إدريس سالم

يُعدّ عيد نَوْرُوز، من أبرز الرموز الثقافية الفنّية الاجتماعية، في الوجدان الكوردي؛ إذ يتجاوز طابعه الاحتفالي إلى كونه فعلاً هُويّاتياً وسياسياً، يعبّر عن إرادة الوجود وحقّ الاختلاف ضمن فسيفساء سوريا وحتى الشرق الأوسط والعالم أجمع. فالمطالبة الشعبية الكوردية باعتراف سلطة دمشق المؤقّتة بعيد نَوْرُوز، لا تنبع بالضرورة عن نزعة انفصالية، إنها رغبة في إعادة تعريف مفهوم المواطنة، على أسس الاعتراف بالتنوّع الثقافي والإثني، بعد عقود من الإقصاء والإنكار الرمزي والتاريخي. فالاعتراف الرسمي بعيد نَوْرُوز، يُفهم في السياق الكوردي بوصفه استعادة للكرامة التاريخية، واعترافاً بالذات الكوردية، ضمن دول الشرق الأوسط، لا خارجها؛ أيّ إنه مطلب ثقافي– حقوقي، يسعى إلى إدماج الموروث الكوردي في البنية الوطنية الجامعة، وتحويل العيد من خصوصية إثنية إلى مشترك إنساني ووطني، يحتفي بالحياة والتجدّد والحرّية.

منذ عقود مضت، والكورد طالبوا من حكومات دمشق المتعاقبة، بإصدار مرسوم، يعترف بعيد نَوْرُوز كعيد قومي للكورد، أو على الأقل أن توجّه خطاب تهنئة بمناسبة العيد، لكن ذلك لم يحدث. وفي المرسوم الرئاسي رقم (188) لعام 2025م، الذي أصدره الرئيس السوري المؤقّت، لتحديد الأعياد الرسمية، للدولة السورية، لم يُذكر عيد نَوْرُوز، من ضمن الأعياد الرسمية، التي تعطّل فيها الدوائر الحكومية. وهذا افتقار كبير، إلى الاعتراف بالمكوّنات العرقية والثقافية المتنوّعة.

إن الحساسية القومية أو الإثنية في سوريا تعتبر إشكالية كبيرة ومعقّدة، وما يسهّلها ويبسّطها، هو اعتراف الحكومة بها دستورياً، وهذا ما لن يحصل؛ بسبب هشاشة الذهنية السياسية للقادة السوريين، فهم في رفضهم وتعنّتهم، يؤكّدون ويصرّون ويعترفون، أن نَوْرُوز هو رمز هامّ وحيوي في الثقافة الكوردية، على مرّ التاريخ، وربطهم بالعطلة الرسمية قد يُفسّر كاعتراف هُوية مكوّن قومي معيّن. في سياق سوريا، التي تخشى الاعتراف الرسمي، ما قد يُفسّر على أنه تفضيل أو انحياز، أو قد يُثير اعتراضاً من مكوّنات أخرى.

تمرّ الحكومة الانتقالية في سوريا بمرحلة حسّاسة، ولا تزال تسعى إلى توازن بين مكوّنات متعدّدة. أيّ خطوة تُنظر إليها كإقصاء أو تهميش قد تثير توتّرات في هذا السياق. قد يرى الرئيس السوري المؤقّت أن الاعتراف بعطلة رسمية، يتطلّب تعديلاً دستورياً أو قانونياً أوسع، أو أن الوضع الانتقالي لا يسمح بمعالجة مثل هذه القضايا في هذا الوقت، أو ربما لأن الأولويات الوطنية الآن هي أمنية واقتصادية وسياسية، بدل القضايا الرمزية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تخشى حكومات دمشق – التي تنظر إلى القضية الكوردية على أنها قضية رمزية – من الاعتراف بالكورد دستورياً؟ وفي المقابل هناك سؤال آخر، مرحلي واستراتيجي: لم الكورد يطالبون دمشق بالاعتراف الرسمي بعيد نَوْرُوز؟

نَوْرُوز، لدى الشعب الكوردي ليس مجرّد عيد ربيعي، نَوْرُوز هو رمز قومي للتحرّر والنهضة والكرامة. فهو يذكّرنا بأسطورة «كاوا الحدّاد»، الذي ثار على الملك الظالم «ضحّاك»، أيّ إنه يرمز إلى رفض الاستبداد، وولادة الحرّية والسلام والازدهار. لهذا السبب الكبير، يرى الكورد، أن الاعتراف الرسمي بنَوْرُوز، يعني اعتراف الدولة بوجودهم الثقافي وهويتهم القومية، ضمن النسيج السوري، وليس إنكارهم أو تهميشهم كما حصل لعقود طويلة. إذاً فالقضية فضية بُعد رمزي – هويّاتي.

ولأن نَوْرُوز عيد قومي للكورد، فيحقّ للكورد أن يسعوا لجعله عيداً وطنياً سورياً جامعاً، يحتفي بالحياة والتجدّد والربيع. أيّ أن الاعتراف به سيصبح جسراً للتعدّد والتعايش بين المكوّنات السورية، لا عامل انقسام وتشتّت. وتجاهل الدولة لعيد نَوْرُوز، هو شكل من أشكال الإقصاء الثقافي والإنساني، يعيد إنتاج العقلية الأحادية في تعريف الهوية السورية.

 

القول إن « نَوْرُوز ليس عيداً عربياً»، يضعنا أمام إشكالية العروبة، بوصفها مرجعية للدولة السورية، مقابل التعدّد القومي والثقافي، الذي يشكّل واقع البلاد. فالنظام السياسي، سواء القديم أو المؤقّت، لا يزال في جوهره يستند إلى تصوّر «العروبة الجامعة»، ما يجعل أيّ عيد أو رمز لا ينتمي إلى هذا الإطار يبدو «خارج الهوية الرسمية».

لكن في المقابل، نحن الكورد وسائر المكوّنات غير العربية، نرى أن الدولة الوطنية الحديثة، لا تقوم على هُوية أحادية، فبناء دولة على تعدّدية معترفة بها دستورياً، تتيح لكلّ مكوّن أن يحتفل بطقوسه الدينية والثقافية والفنّية، دون أن يُطلب منه تبرير ذلك، أو انتظار «اعتراف» من السلطة المركزية.

ومن هنا، تصبح المطالبة بالاعتراف بعيد نَوْرُوز، رمزاً لمطلب أوسع، وهو الانتقال من الدولة الأحادية أو المركزية إلى دولة المواطنة التعدّدية، حيث لا يُقاس الانتماء القومي بمدى قربه من «الهوية الرسمية»، وإنما بمدى احترامه لحقوق الآخرين ضمن الوطن الواحد.

وأخيراً، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى، فإن يوم الحادي والعشرين من آذار، هو يوم الكورد، هو عيد نَوْرُوز، عيد الربيع والإنسانية، عيد متجذّر في وجدان الناس، لا تلغيه مراسيم ولا تمحوه التجاهلات والاستفزازات. وإن ما يجري اليوم من استفزاز مقصود ومخطّط، عبر الامتناع عن تثبيت عيد نَوْرُوز عطلة رسمية، في مرحلة يُفترض أن تكون مرحلة صياغة عقد اجتماعي جديد، لا يخدم مصلحة أحد، ولا يقرّب المسافة بين الشمال الكوردي ودمشق. ومَن لا يدرك أن العدالة تُقاس بميزان الإنسان، لا بسطوة المنتصر، فليس مؤهّلاً لقيادة وطن جريح يتلمّس طريقه نحو النور والحرّية والاستقرار.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين المجتمع الأمريكي من اكثر المجتمعات بالعالم تنوعا من النواحي العرقية ، والثقافية ، والجنسية ، فبخلاف اهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر الذين عاشوا الحياة البدائية لقرون غابرة ، والذين انقرضوا بمرور الزمن ، هناك مئات الملايين من مهاجرين من عشرات الانتماءات القومية ، والثقافية لشعوب أوروبا ، وافريقيا ، وآسيا ، وامريكا اللاتينية ، وأستراليا تعاقدوا منذ…

زاكروس عثمان في النقاشات السياسية المتصلة بسوريا، يبرز خطاب إعلامي موجَّه يعتمد على مغالطات لغوية – سياسية تُستخدم لترسيخ رواية السلفية–التكفيرية حول “الدولة الواحدة” و“هيمنة الأغلبية”. ومن أخطر هذه المغالطات ما جاء به الإعلامي السوري فيصل القاسم في مقاله المنشور في صحيفة القدس العربي يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 بعنوان: «متى حكمت الأقليات في الديمقراطيات؟». يبدأ القاسم مقاله بهجوم حاد…

د. محمود عباس من أخطر الظواهر التي تعيد إنتاج عصور الجهل والظلام في واقعنا السوري الراهن، تلك الموجة المسعورة التي تستهدف المفكرين والكتّاب الأحرار، ومن بينهم الكاتب الكوردي (هوشنك أوسي) وسائر الأقلام الديمقراطية المستقلة، التي تكتب بضمير وطني حرّ، والتي ندينها بأشد العبارات. فالهجمة لا تصدر عن نقد فكري مشروع، بل تُشنّ بأدوات التكفير والتحريض من قبل فلول التطرف وبقايا…

جليل إبراهيم المندلاوي في الوقت الذي صار فيه المقعد النيابي أكبر من صاحبه، وأضيق من أن يتّسع لفكرة الديمقراطية، خرج علينا مشهدٌ يلخّص أزمة السلطة حين تنقلب على أصل معناها، ففي قضاء الدبس الهادئ، استيقظ الأهالي على عرض أكشن سياسيّ حيّ.. حيث اقتحم نائب منتخب بيت مواطن لأنه تجرأ وكتب تعليقا على فيسبوك، عجبا.. يبدو أن الديمقراطية عند البعض تتحسس…