الشرق الأوسط الجديد بين أوهام سايكس–بيكو وحقائق الكورد المؤجلة

د. محمود عباس

عند التوقف أمام كلمة دونالد ترامب في البيت الأبيض اليوم، إلى جانب نتنياهو، بشأن السلام في غزة، حين قال إن “الإشكالية تخص كل الشرق الأوسط”، ولافتًا إلى الاتفاقية الإبراهيمية، يلاحظ المتأمل دقته اللافتة – وربما المتعمّدة – في نطق الكلمة، متأرجحًا بين لهجته الخاصة واللكنة العبرية، وكأنه أراد أن يخلع عليها بُعدًا رمزيًا يتجاوز السياسة المباشرة ليمنحها مسحة من القداسة.

في المقابل، نجد مبعوثه إلى سوريا ولبنان، توماس براك، يتحدث ولعدة مرات، وخاصة تصريحه البارحة، بوضوح عن الجغرافيات العشوائية التي وُلدت في مطلع القرن العشرين مع اتفاقية سايكس–بيكو، واصفًا دول المنطقة بأنها كيانات بلا أساس قومي، متداخلة فيها العشائر والقبائل والعائلات أكثر من القوميات المتماسكة.

 وحين نضيف إلى ذلك تصريح فلاديمير بوتين عن ضرورة النظام الفيدرالي في سوريا، يصبح واضحًا أن ما يُتداول عن “الشرق الأوسط الجديد” ليس وهمًا إعلاميًا، بل حقيقة تتحرك خلف الكواليس، تنتظر مرحلة النضوج السياسي والفكري لشعوب المنطقة. ولهذا تتصاعد وتهدأ الموجات الإعلامية بشأنها تبعًا للظروف والصفقات.

وفي قلب هذه التفاعلات، برزت التحالفات الإقليمية التي تقودها تركيا، بمشاركة إيران، منذ أكثر من عقد من الزمن، مدعومة أحيانًا من قطر والعراق وسوريا، وكلها تلتقي عند نقطة مشتركة، إيقاف الصعود الكوردي، خصوصًا في سوريا الأن، فتركيا جعلت من هذه القضية إحدى النقاط المهمة لتحركاتها الدبلوماسية في البيت الأبيض، مسخّرة أوراقها للضغط باتجاه دعم حكومة الجولاني، ليس حبًا بها، بل خوفًا مما قد يترتب على الاعتراف بغربي كوردستان إذا ما رضخت الحكومة السورية الانتقالية لشروط قسد والهيئة المنبثقة عن مؤتمر قامشلو، تلك الهيئة التي جُمّدت فجأة بقدرة قادر.

ولم تكتف أنقرة بالتحركات الدبلوماسية، بل تعمد إلى تقوية منظماتها التكفيرية، وحثّها على مهاجمة نقاط التماس مع قوات قسد، في محاولة لفرض شروطها، نظام مركزي، حل قسد، ودمجها فيما يسمى “الجيش الوطني السوري” الهدف التركي يتجاوز إسقاط الإدارة الذاتية، ليصل إلى تعطيل الاستراتيجية الأمريكية–الأوروبية، وربما استخدامهم لإسرائيل كأداة في التنفيذ، وإن لم تكن هي صاحبة الخطة، وهذا ما يتوقع أن يؤدي حتى ربما إلى مواجهة خطيرة، بينها وبين إسرائيل، كما تمت مع إيران، وتركيا لن تتراجع عندما تدرك أن الخطر أصبحت على أبوابها.

ومهما تأخر الوقت، فإن المخطط سيُنفّذ ويُعاد رسم خريطة الشرق الأوسط. لكن يبقى السؤال المصيري، هل سينال الكورد وطنهم القومي هذه المرة؟ الجواب مرهون بوعي الحراك الكوردي وقدرته على الارتقاء إلى مستوى بناء الدولة وإدارتها. المؤسف أن المشهد الراهن لا يختلف كثيرًا، من حيث التخلف السياسي والدبلوماسي، مقارنة بين المرحلتين من حيث التطور الحضاري، عن وعي الكورد أيام اتفاقيتي سيفر ولوزان حين كانت سايكس–بيكو تُرسم على الخرائط.

نظن أحيانًا أننا أصبحنا قوة قادرة على إدارة الدولة، لكن الواقع يكشف أننا ما زلنا في بدايات التكوين، وأن وعينا النظري متراجع أحيانًا عن مكتسباتنا العملية على الأرض. ومع ذلك، فإن الدول التي تحتل كوردستان ليست بالجبروت الذي تصوره، فهي في داخلها غارقة في أزماتها وأوبئتها، وستنهار عند أول مواجهة دولية جدية. وهنا يكمن التحدي والفرصة معًا: نحن أمام واقع هشّ يحيط بنا، ولدينا من الإمكانيات ما يؤهلنا لتجاوزه.

أبقى متفائلًا، حتى وإن طال الزمن وتأخرت اللحظة، فالإمكانيات لا تنقصنا؛ نملك كل عناصر بناء الدولة، الموارد، والعقول، والقوى الاجتماعية، والموقع الجيوسياسي الفريد.

ما يعوزنا هو التركيز، إذ نهدر طاقاتنا في الهامشيات والثانويات. نحن كأمة نمتلك قوى خامًا قادرة، لو جُمعت وصُقلت، لكانت كفيلة ببناء كوردستان ودفعها إلى مصاف الدول المتقدمة سياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا، واجتماعيًا.

علينا ألا نستهين بقدراتنا، ولا نقلل من قيمة مداركنا وسويتنا، ولا من إمكانياتنا الفكرية والسياسية. الطريق يفرض أن نعمل معًا، بوعي ووحدة، لنكسب ثقة العالم ونحصل على الدعم الدولي الذي يليق بقضيتنا وحقنا في الوجود.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

29/9/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…