نجاح هيفو
منذ عقود والأحزاب الكوردية تعيش في دائرة مغلقة من الأزمات الداخلية والانقسامات التنظيمية التي كثيراً ما تقود إلى ضعفها، وانحسار دورها في تمثيل الشعب الكوردي والدفاع عن قضاياه. إحدى أبرز مظاهر هذه الأزمات تتمثل في التكتلات الداخلية التي تتشكل داخل الحزب الواحد، حيث تنشأ مجموعات متنافرة من الأعضاء والقيادات تتصارع على النفوذ والقرار، لتتحول الحياة الحزبية من إطار نضالي جامع إلى ساحة تناحر وصراع شخصي وسياسي.
هذه الظاهرة ليست جديدة؛ فقد حذّر العديد من المفكرين والمناضلين الكورد من خطورتها منذ عقود، وكتب عنها المخلصون بمرارة، ومنهم من نبه إلى أنها قد تكون النقمة الكبرى التي تؤدي إلى زوال أي حزب سياسي إذا لم يتم تداركها. ولعل ما يزيد خطورة الأمر هو أن كثيراً من هذه الأحزاب لم تتعلم من تجاربها السابقة، ولم تضع أسساً صلبة تمنع إعادة إنتاج هذا المرض الذي يتفاقم مع مرور الزمن.
للتكتلات داخل الحزب الواحد أسباب متشابكة، منها ما هو تنظيمي ومنها ما هو ثقافي واجتماعي:
ضعف المؤسساتية: حين يغيب النظام الداخلي الواضح وآليات المراقبة والمحاسبة الديمقراطية، تُترك الساحة مفتوحة أمام الأفراد لتشكيل جماعات ضغط وكتل داخلية
الشخصنة والزعامة الفردية: في كثير من الأحيان، يتمحور العمل الحزبي حول شخصيات قيادية بدلاً من المبادئ والبرامج، مما يولد ولاءات متفرقة تتناحر فيما بينها.
التأثيرات الخارجية: التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن الكوردي لعبت دوراً في تغذية الخلافات الداخلية، إذ غالباً ما تُدعم كتلة على حساب أخرى.
الإرث الاجتماعي: الثقافة التقليدية التي تميل إلى العصبية العشائرية أو المناطقية تنتقل أحياناً إلى داخل البنية الحزبية، لتظهر في شكل تكتلات منظمة.
إن التكتلات لا تضعف الحزب فحسب، بل تفرغه من مضمونه الأساسي وتحوّله إلى هيكل مترهل:
شلل في اتخاذ القرار: حيث تُغلب المصالح الفئوية على المصلحة العامة، ويصبح التوافق مستحيلاً.
المواطن الذي يرى انقسام الحزب على نفسه يفقد الأمل في قدرته على قيادة المجتمع أو مواجهة التحديات الوطنية.
بدلاً من توجيه الجهود نحو خدمة الجماهير وتحقيق الأهداف القومية، تُهدر الطاقات في صراعات داخلية.
كثير من الأحزاب الكوردية شهدت انشقاقات متكررة بسبب تعذر التعايش بين الكتل، وهو ما أدى إلى تشرذم الحركة الكوردية برمتها.
أكثر من يعاني في ظل هذه التكتلات هو العضو المخلص الذي يؤمن برسالة الحزب ويريد له التقدم والتجديد. هذا العضو يجد نفسه ضائعاً بين الولاءات المتناحرة، عاجزاً عن التعبير عن رؤيته بحرية خشية أن يُحسب على هذه الكتلة أو تلك. وفي كثير من الأحيان، يضطر هذا الحزبي إما إلى الصمت والاستسلام، أو إلى الانسحاب الكامل من الحياة الحزبية، مما يعني خسارة الحزب لطاقات ثمينة كان يمكن أن تُسهم في تطويره.
إن إزالة هذه التكتلات ليست خياراً ثانوياً، بل هي ضرورة وجودية لبقاء الحزب نفسه. فالخطوة الأولى تكمن في الاعتراف بالمشكلة بدلاً من إنكارها أو تبريرها. ثم تأتي الحاجة إلى:
ترسيخ الديمقراطية الداخلية: من خلال اعتماد انتخابات شفافة وهيئات رقابية مستقلة تضمن محاسبة الجميع.
إعادة الاعتبار للبرنامج السياسي: بحيث يكون الانتماء للحزب قائماً على قناعة بالمبادئ والأهداف، لا على الولاء للأشخاص أو الكتل.
تشجيع الحوار الداخلي: توفير منابر نقاش حرة بين الأعضاء لتبادل الأفكار دون خوف أو إقصاء.
تجديد القيادة: فتح المجال أمام الكفاءات الشابة وتداول المسؤوليات بشكل دوري يمنع تراكم النفوذ بيد فئة محددة.
التثقيف السياسي: رفع وعي الأعضاء بمخاطر التكتلات وأهمية العمل الجماعي، عبر برامج تثقيفية وتدريبية.
لقد كتبتُ عن هذا الموضوع قبل أكثر من سبعة أعوام، وما زال المرض قائماً، بل يتفاقم يوماً بعد يوم. وهذا مؤشر خطير يدل على غياب الإرادة الجادة للإصلاح. إن استمرار التكتلات يعني أن هذه الأحزاب ستبقى عاجزة عن تمثيل شعبها، وسيبقى الشارع الكوردي في حالة يأس وفقدان ثقة.
الرسالة اليوم إلى جميع الأحزاب الكوردية هي أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية، وأن تدرك أن الوحدة الداخلية ليست ترفاً، بل شرطاً أساسياً للبقاء. فإما أن تتخلص هذه الأحزاب من رواسب التكتلات وتبني أرضية صلبة للعمل المؤسسي، أو أن تواجه خطر الانهيار والزوال.
إن التحديات التي تواجه الشعب الكوردي على مختلف الأصعدة – من حقوق سياسية وثقافية، إلى قضايا الأمن والاستقرار – لا تحتمل مزيداً من التشرذم. وآن الأوان لأن تدرك القيادات أن المستقبل لن يُبنى بالكتل الصغيرة المتناحرة، بل بوحدة الصف ورصانة المؤسسات.
التكتلات داخل الحزب الواحد ليست مجرد ظاهرة طبيعية أو خلافات عابرة، بل هي مرض عضال يفتك بجسد الأحزاب ويقودها إلى الفناء. وما لم تُتخذ خطوات عملية جادة لإزالة هذه الرواسب، ستبقى الحركة الحزبية الكوردية أسيرة لدوامة الانقسام والضعف.
على كل حزب أن يختار بين خيارين لا ثالث لهما:
إما بناء أرضية صلبة موحدة تضمن بقاءه واستمراره.
أو ترك الساحة للانهيار التدريجي حتى يصبح أثراً بعد عين.
إنها لحظة مفصلية، والمسؤولية تقع على عاتق الجميع: قيادات وأعضاء، شباباً وشيباً، كي يكون الحزب أداة للتغيير والتقدم، لا ضحية لصراعات داخلية عقيمة.