ماهين شيخاني
لم تكن القضية الكوردية في سوريا يومًا ملفاً ثانوياً أو هامشاً في دفتر السياسة السورية، بل هي في جوهرها قضية شعبٍ ممتدّ على أرضه منذ قرون، وشريك أصيل في تاريخ هذه البلاد وثقافتها، قبل أن تتحوّل بفعل السياسات الإقصائية إلى ما يشبه الجرح المفتوح في جسد الوطن. فالمسألة ليست مجرد مطالب خدمية أو إدارية، كما حاولت الحكومات المتعاقبة تصويرها، بل هي مسألة وجود وهوية وحقوق قومية جرى إنكارها لعقود طويلة.
من النشأة إلى التهميش المنهجي
منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة، لم يُنظر إلى الكورد كشريك، بل كأقلية هامشية يُراد صهرها في سرديات قومية ضيقة. سياسات التعريب، وحرمان مئات الآلاف من الجنسية في إحصاء 1962، ومشروع “الحزام العربي”، كلها كانت محاولات لإعادة رسم الجغرافيا والهوية. لكن التجربة أثبتت أن الإنكار لا يُلغي الحقوق، بل يضاعفها، وأن التهميش لا يصنع الاستقرار، بل يولّد القلق والتمرد.
الأزمة السورية وكشف المستور
مع اندلاع الأزمة عام 2011، انكشف المستور: دولة مركزية متآكلة، شعوب مُهمّشة، ومطالب متراكمة لم يعد بالإمكان إسكاتها. الكورد، الذين عاشوا عقوداً من الإنكار، خرجوا ليثبتوا أن قضيتهم ليست ملفاً خدماتياً بل قضية سياسية قومية، ترتبط بوجودهم نفسه. من هنا بدأ النقاش الجدي حول شكل الدولة المقبلة، وكيف يمكن صياغة عقد اجتماعي جديد يضمن لكل مكوّن مكانه الطبيعي.
الفيدرالية كإطار للحل
الفيدرالية، بما تعنيه من توزيع للسلطات بين المركز والأقاليم، ليست وصفة تقسيمية كما يروّج خصومها، بل وسيلة لإدارة التعددية في وطن واحد. فهي تتيح للمجتمعات المختلفة أن تحكم نفسها في شؤونها المحلية، مع الحفاظ على وحدة البلاد وسيادتها في القضايا الكبرى. في بلد فسيفسائي مثل سوريا، حيث تتجاور هويات قومية ودينية متعددة، تصبح الفيدرالية صيغة عقلانية تحفظ التنوع بدل قمعه، وتحوّل الاختلاف إلى مصدر قوة.
دروس من كونفرانس قامشلو
لقد شكلت مقررات كونفرانس قامشلو خطوة مهمة في إعادة تعريف العقد الاجتماعي السوري. أكدت أن الكورد ليسوا “ضيوفاً ” في البلاد، بل مكوّن أصيل، وأن الحل يكمن في دستور يعترف بالتعدد القومي والثقافي. هذه المقررات لم تكن مجرد وثائق نظرية، بل عكست تجربة واقعية لإدارة التنوع في أصعب الظروف، وأثبتت أن الشراكة الحقيقية هي الضمانة الوحيدة لوحدة البلاد.
الفيدرالية في مرآة التجارب العالمية
ليس في سوريا وحدها تُطرح الفيدرالية كخيار. التاريخ الحديث مليء بتجارب تؤكد أن هذا النظام يمكن أن يكون صمام أمان للتعددية:
سويسرا: بلد صغير متعدد القوميات واللغات (ألمانية، فرنسية، إيطالية، رومانية)، استطاع عبر نظام فيدرالي متوازن أن يحوّل تنوعه إلى نموذج للاستقرار والديمقراطية، بل أصبح مثالًا عالميًا على إدارة التعدد.
كندا: واجهت تحديات الانقسام بين المكون الفرنسي (الكِيبِكي) والإنكليزي. بفضل الفيدرالية، جرى استيعاب مطالب الكيبك دون أن تنهار الدولة. التنوع تحوّل إلى عنصر غنى ثقافي واقتصادي.
العراق: رغم تعقيد التجربة العراقية ومآسيها، إلا أن إقرار إقليم كردستان ككيان فيدرالي بعد 2003 منح الكورد اعترافًا بهويتهم وحقوقهم، وأوجد لأول مرة منذ قرن صيغة للتعايش ضمن حدود الدولة العراقية.
ألمانيا: بعد الحرب العالمية الثانية، بُنيت الدولة الألمانية على أسس فيدرالية قوية، وهو ما ساهم في إعادة إعمارها وتحويلها إلى قوة اقتصادية وسياسية كبرى.
هذه التجارب تؤكد أن الفيدرالية ليست “خطراً ” بل أداة لبناء الوحدة الطوعية بدل الوحدة المفروضة. فالوطنية الحقيقية لا تُقاس بمدى إنكار الآخر، بل بمدى القدرة على الاعتراف به شريكاً كامل الحقوق.
بين الخطاب والواقع
رفع شعار “الوحدة الوطنية” لا يكفي، فقد أثبتت العقود الماضية أن الوحدة القائمة على الإنكار مجرد وهم هش. أما الوحدة القائمة على دستور عادل يعترف بالتعدد، فهي التي تبقى وتزدهر. من هنا تصبح الفيدرالية الدستورية ضرورة لا مهرب منها إذا أردنا مستقبلاً مستقراً لسوريا.
نحو عقد اجتماعي جديد
إن المطلوب اليوم ليس شعارات عاطفية، بل شجاعة سياسية في مواجهة الموروث. الكورد، مثل غيرهم من السوريين، يريدون سلاماً دائماً لا حرباً جديدة، ويريدون أن تُصان حقوقهم في نصوص دستورية واضحة لا في وعود قابلة للنقض. الاعتراف ليس ضعفاً بل قوة، والمساواة ليست تهديداً للوحدة بل شرطاً لها.
خاتمة: الفيدرالية كضمانة للسلام
القضية الكوردية في سوريا ليست قضية فئة تبحث عن امتياز، بل قضية وطن يبحث عن العدالة. الفيدرالية الدستورية هي الطريق الواقعي لبناء سوريا جديدة: سوريا لكل السوريين، لا مركز فيها يحتكر القرار، ولا أطراف تُقصى من التاريخ. بهذا وحده يمكن أن تتحول معاناة الماضي إلى رصيد للمستقبل، وبهذا فقط يصبح الوطن بيتًا يتسع للجميع.
هامش: ما هي الفيدرالية الدستورية..؟.
الفيدرالية الدستورية هي نظام حكم يقوم على توزيع السلطات بين حكومة مركزية وأقاليم أو ولايات، يُنظَّم ذلك في دستور ملزم يحدد بدقة صلاحيات كل طرف. الغاية منها هي ضمان مشاركة كل المكونات في إدارة الدولة، ومنع احتكار السلطة، مع الحفاظ على وحدة البلاد وسيادتها.