عباءة التبعية… وكوفية الحرية

صلاح عمر

ليست العادات والتقاليد مجرد تفاصيل سطحية في حياة الشعوب، بل هي انعكاس لبنية اجتماعية عميقة تتجاوز اللباس والمظاهر إلى صورة الإنسان عن نفسه وعلاقته بالآخر. وعندما تكون العلاقة بين جماعة وأخرى علاقة سيطرة وهيمنة، فإن عادات الأقوى تصبح معيارًا للجمال والهيبة والسلطة، فيما تتحول هوية الأضعف إلى ظلٍّ باهت يقتات على فتات رموز الآخرين.

الكرد في أجزائهم الأربعة خبروا هذه الحقيقة المرّة طيلة قرون. ففي الشمال، لم يفرض أتاتورك البرنيطة على الأتراك وحدهم، بل جعلها رمزًا للحداثة المزعومة، وحين مات الرجل وترك الأتراك قبعته، ظل بعض الكرد يتمسكون بها كعلامة ولاء لذكرى زائفة. وفي غرب كردستان، لم تكن العباءة العربية والمحرمة والعقال مجرد لباس، بل كانت عنوانًا لهيبة مصطنعة سعى بعض الوجهاء إلى التزيّن بها، حتى أضحى القفطان والجبة و”الجاكيت مع العباءة” صيغة مشوّهة لرمزية السيادة.

كنا نعتقد أن هذه المرحلة انتهت مع صعود الوعي القومي الكردي وتحرر المجتمع من عقدة التقليد، فإذا بنا نُفاجأ اليوم بمشاهد عبثية تُعيد إنتاج الماضي: شيوخ وآغوات يُختارون في حفلات متوارثة، ويُلبَّسون العباءة على الملأ وكأنها تاج سلطة. الأسوأ من ذلك أنّ بعض هؤلاء لم يلبسها يومًا، فيتعثر بها أمام الحضور ليصبح مادة للسخرية، لا للهيبة. إن العباءة هنا لا تُكرّم صاحبها، بل تفضحه كرمز لذهنية مقلّدة تبحث عن مكانة في مرايا الآخرين.

المشكلة ليست في العباءة بحد ذاتها، ولا في الثوب أو العقال، بل في الذهنية التي تربط المكانة الاجتماعية بالتماهي مع رموز الآخر. هذه الذهنية لم تُنتج تبعية ثقافية فقط، بل أسست أيضًا لواقع سياسي مأزوم؛ فالذي يقبل أن يتزيّن بعادات غيره ليظهر بمظهر القوي، يقبل أيضًا أن يُدار بشروط غيره في السياسة والاقتصاد والمصير. الثقافة هنا تصبح مرآة للسيادة أو التبعية، والرمز اليومي – مهما بدا بسيطًا – يكشف عمق البنية السياسية التي يعيشها المجتمع.

ولعل المقارنة مع رموزنا الأصيلة تفضح التناقض أكثر. فالشال والكوفية الكردية التي ارتداها البيشمركة كانت رمزًا للنضال والكرامة والتحدي، وارتبطت في الوعي الجمعي بالكفاح من أجل الحرية. لماذا لا نكرّم مختارًا أو قائدًا بارتداء هذه الرموز الأصيلة، بدلًا من عباءة لا تمت إلينا بصلة سوى عبر تاريخ طويل من التبعية؟

إن إعادة الاعتبار لعاداتنا ورموزنا ليست مجرد مسألة فولكلور، بل فعل تحرر سياسي وثقافي. فالمجتمع الذي يستعيد ثقته بنفسه وبذاكرته الجمعية، ويصنع رموزه الخاصة، هو وحده القادر على أن يكون سيد قراره السياسي. أما التبعية في اللباس فهي وجه آخر للتبعية في القرار، والتقليد الأعمى اليوم هو تمهيد للخضوع غدًا.

السؤال الذي يفرض نفسه: متى نكسر هذا الإرث المثقل بالتبعية، ونصنع هوية متحررة من رموز الآخرين؟ متى ندرك أن الهيبة الحقيقية ليست في العباءة التي تجعلنا مسخرة، بل في الكوفية التي جعلتنا شعبًا يقاوم ليبقى؟

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…