بوتان زيباري
لا جدوى من محاولة إثبات الشمس في كبد السماء، فالحقيقة حين تتجلى لا تحتاج إلى شهود، بل إلى عيونٍ تجرؤ على رؤيتها وعقولٍ مستعدة لاستيعابها. لطالما وقف التاريخ شاهدًا على أولئك الذين امتلكوا شجاعة إدراك الواقع، فلم يعودوا ضحايا لأكاذيب الماضي ولا أسرى لدوامة التكرار العقيم. هؤلاء، الذين أنارت عقولهم التجارب، أدركوا أن العيش في الوهم لا يصنع مستقبلًا، بل يجرّ الماضي إلى الحاضر بعبثيةٍ مريرة.
لكن ماذا عن أولئك الذين يتناسون دروس الماضي ويكررون ذات الأخطاء بجمودٍ مذهل؟ أولئك الذين يصرّون على أن الطُرق الموصدة ستفتح فقط لأنهم يرغبون بذلك! يكررون العبث ذاته، كراقصٍ أعمى في حلبة نار، متوهمين أن خطواتهم العرجاء ستقودهم إلى مخرجٍ لم يوجد أصلًا. وكأنهم لم يسمعوا يومًا عن ذلك القانون القاسي للتاريخ: “من يرفض التعلم محكومٌ عليه بإعادة الدرس، ولكن بسعرٍ أفدح!”
في هذا العالم، الذي تنوعت فيه الأجناس والأعراق والمذاهب، لم يكن الاختلاف عائقًا أمام بناء أنظمةٍ عادلةٍ تستوعب الجميع. بل كان الدافع الأساسي لابتكار حلولٍ سياسية متينة، جعلت من الفدرالية واللامركزية أدواتٍ لحفظ حقوق الشعوب، ومنعت الاستبداد من التغلغل في بنية الحكم. لم تولد هذه الأنظمة من فراغ، بل كانت ثمرة صراعاتٍ فكرية وميدانية، استخلصت الشعوب من خلالها حقيقةً واحدة: لا حرية بلا مشاركة، ولا عدالة بلا توزيعٍ حقيقي للسلطة والثروة.
ومع ذلك، نجد دولًا متجانسةً عرقيًا ودينيًا تعاني من النزعات الانفصالية، وكأن فكرة “الوحدة المطلقة” ليست سوى أسطورة رومانسية يتشبث بها الحالمون. ففي إيطاليا، يتطلع شمالها الغني إلى الاستقلال عن جنوبها الفقير، وفي إسبانيا، ما زال الكتالونيون يناضلون من أجل تقرير مصيرهم، وحتى في كندا، لم يهدأ الحراك المطالب بفصل إقليم كيبيك الناطق بالفرنسية. فهل نحن أكثر قوميةً من هؤلاء؟ أم أن إدراكهم للواقع أكبر من عنادنا الأعمى؟ الفرق بيننا وبينهم أنهم يعترفون بالمشكلات، بينما نحن نخفيها تحت سجادة الشعارات الجوفاء، ونرفض المساس بوحدةٍ لم يترجمها الواقع سوى إلى قيدٍ خانق.
وإذا ما أعدنا النظر إلى سوريا، هذا البلد الذي انصهرت فيه الأعراق والثقافات لعقودٍ تحت قبضة مركزيةٍ قاهرة، سنجد أنفسنا أمام مفارقةٍ ساخرة. فحين يطالب البعض بتطبيق أنظمةٍ مجرّبةٍ ومثبتة النجاح، يتهمون بالانفصالية والخيانة. لكن المفارقة تكمن في أن شريحةً واسعة من السوريين يعيشون اليوم في دولٍ غربيةٍ تتبنى ذات الأنظمة التي يرفضونها لبلادهم، ويستفيدون من مزاياها دون أن يتهمهم أحد بالتآمر! فلماذا يُسمح لهم هناك بالحياة الكريمة، بينما يُحرمون منها في أوطانهم؟ لماذا يصبح ما هو عدلٌ في باريس أو برلين جريمةً في دمشق؟ هل كُتب على هذه الأرض أن تبقى سجنًا لا مفر منه؟ أم أن المشكلة تكمن في عقليةٍ استبدادية ترى السلطة غنيمةً لا تُقسم، وترى الشعب مجرد قطيعٍ يُساق حيث يريد الحاكم؟
لنأخذ شرق الفرات مثالًا، هذا الإقليم الذي احتضن عربًا وكوردًا ومسيحيين ومسلمين في مزيجٍ تاريخي متجانس، لكنه ظلّ لعقودٍ تحت رحمة التهميش المتعمد. رغم كونه القلب الاقتصادي لسوريا، حيث النفط والغاز والقمح والقطن، إلا أن خيراته لم تكن لأهله، بل كانت تُشحن إلى مراكز القرار، بينما بقي سكانه بلا بنى تحتية، بلا مدارس محترمة، بلا مستشفياتٍ تليق بالبشر، بلا جامعاتٍ تستحق اسمها. كانت الجغرافيا تجود عليهم بالثروات، لكن السياسة تحرمهم من نصيبهم العادل.
بل والأسوأ من ذلك، أن الداخل السوري لم يكن ينظر إليهم إلا بعين الاستعلاء! “شوايا”، “بدو متخلفون”، “كورد عنيدون”، “عشائر متأخرة”، كلها تسمياتٌ وُصمت بها هذه المنطقة، كأنها مجرد هامشٍ يعيش ليخدم المركز! كانوا اليد العاملة الرخيصة، والفلاحين الذين يزرعون ليأكل غيرهم، والعمال الذين يبنون ليقطف الآخرون الثمار. كانوا أشبه ببقرةٍ حلوب، لكنها لم تذق يومًا من حليبها!
لكن الزمن تغيّر، وما كان يُفرض بالقوة لم يعد يقبل الانصياع بسهولة. إن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، ومن يعتقد أن شرق الفرات سيعود إلى وضعه السابق كإقطاعيةٍ تابعة فهو واهم. هذه لحظةٌ فاصلة، فرصةٌ لا تُعوّض، إما أن تُستغل الآن، أو يُعاد فرض القيد إلى الأبد. لم تعد الشعوب تقبل أن تُحكم بالحديد والنار، والتاريخ شاهدٌ على أن كل سلطةٍ متصلبةٍ كانت نهايتها الزوال.
إن كنا نريد وحدةً حقيقية، فعلينا أن نصوغها بالعدل لا بالقهر. إن كنا نريد الولاء، فعلينا أن نجعل الوطن بيتًا حقيقيًا لا قفصًا من ذهب. أما أولئك الذين يظنون أن بإمكانهم أن يحكموا إلى الأبد بالقوة، فلينظروا في صفحات التاريخ جيدًا، فالخاتمة لم تكن يومًا كما تخيلها الطغاة. شرق الفرات لم يعد بقرةً تُحلب لغيرها بينما تجوع، ولن يكون بعد اليوم تابعًا بلا رأي. آن الأوان أن يطعم الأبناء أولًا، قبل أن نحدثهم عن كرم الضيافة للجيران.
السويد
26.01.2025