هل هو سلام حقيقي أم هدنة تكتيكية؟ تحولات حزب العمال الكردستاني وتداعياتها على كردستانات المنطقة

صلاح عمر

وسط الزخم السياسي والإعلامي المحيط بالتسريبات عن نية حزب العمال الكردستاني الإعلان عن حل نفسه وإلقاء سلاحه، تتجه الأنظار نحو ما يمكن أن يحمله هذا التحول من تداعيات إقليمية، وما إذا كانت المنطقة على أعتاب تحول جوهري في الملف الكردي داخل تركيا، أم أن ما يحدث ليس سوى فصل جديد من فصول الخداع السياسي الذي طالما مارسته أنقرة في تعاملها مع القضية الكردية.

إن صدق هذه التسريبات يعني أن الحزب الذي رفع السلاح لعقود دفاعاً عن حقوق كرد تركيا، يوشك على طي صفحة طويلة من المواجهة العسكرية، وفتح صفحة جديدة من العمل السياسي. غير أن التاريخ القريب والبعيد، يُحذرنا من حسن النوايا وحدها. فكم من مرة أبدى الكرد حسن نيتهم، فكان المقابل إما التصفية أو التهميش أو الالتفاف على المطالب. ولذلك، فإن المطلوب اليوم ليس فقط إعلان نوايا، بل تقديم ضمانات ملموسة، دستورية وسياسية، تضع الأساس لحل حقيقي وعادل.

إن الخشية الكبرى تكمن في أن يكون حزب العمال الكردستاني قد دُفع إلى هذه الخطوة تحت ضغط إقليمي ودولي كثيف، دون أن تُحقق أدنى المطالب التي ناضل من أجلها شعبٌ بأكمله، ليُستخدم لاحقاً كورقة تمَّ حرقها. فتركيا، التي لطالما استثمرت في الوقت والتكتيك، قد ترى في هذا التحول فرصة سانحة لتصفية الحسابات، داخلياً وخارجياً، عبر تصويره كـ”انتصار للأمن القومي” لا كخطوة نحو السلام.

في كردستان سوريا، لن تمر هذه المتغيرات دون انعكاسات مباشرة. فحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذي يتقاطع فكرياً وتنظيمياً مع حزب العمال، سيجد نفسه أمام تحدي إعادة التموضع وتفسير هذه المتغيرات أمام الرأي العام الكردي المحلي. قد يفتح هذا التحول نافذة نحو تخفيف التوتر مع تركيا أو على الأقل تحييد الذريعة الأمنية التي استخدمتها أنقرة في شن هجماتها. لكن في المقابل، هناك مخاوف حقيقية من أن يُطلب من كرد سوريا تقديم تنازلات موجعة كجزء من ترتيبات إقليمية لا يشاركون في صنعها.

…وفي خضم هذه التحولات، وبين تساؤلات الشارع الكردي عن جدوى المسارات العسكرية وأثمانها، برز ضوءٌ مختلف من قامشلو، حيث احتضنت مدينة – في ٢٦ نيسان ٢٠٢٥ – كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي.

ففي مشهد قلّ نظيره، اجتمعت الأحزاب الكردية، والشخصيات الوطنية، ومنظمات المجتمع المدني، والمرأة الكردية على كلمة سواء، واضعين الخلافات جانبًا، ورافعين شعار الكرامة والوحدة.

وتمخض عن هذا اللقاء التاريخي ولادة رؤية سياسية كردية موحدة، لا تكتفي بتشخيص الأزمة السورية، بل تتقدم بحلول جريئة ومسؤولة، تضمن حقوق الكرد القومية في إطار حل وطني سوري شامل، ديمقراطي، تعددي، ولا مركزي.

إنها لحظة فاصلة… قد تكون الفرصة الأخيرة لتأسيس مرجعية كردية جامعة، تتحدث باسم الشعب الكردي، لا بلغة السلاح وحده، بل بلغة التوافق والمبادرة والواقعية السياسية.

أما في كردستان العراق، فالتداعيات لا تقل أهمية. إذ يشكل وجود العمال الكردستاني في جبال قنديل ومحيطها الذريعة الدائمة لأنقرة للتدخل العسكري المتكرر في الإقليم. وإذا ما تم فعلاً انسحاب مقاتلي الحزب، فقد تتراجع هذه الذريعة، لكن ليس بالضرورة أن تتراجع شهية التوسع التركي. فالخشية هنا أن تستغل أنقرة هذا التحول لتكريس وجودها العسكري في المناطق التي سيطرت عليها بذريعة محاربة الحزب، وتحولها إلى أمر واقع بعيد عن أية شرعية أو اتفاق سياسي مع حكومة الإقليم.

وعليه، فإن انسحاب حزب العمال الكردستاني يجب أن يكون مرفقاً بضمانات دولية لسيادة أراضي كردستان العراق، وإلا فإن تركيا قد تملأ هذا الفراغ العسكري بما يعزز هيمنتها ونفوذها، لا بما يدعم الاستقرار.

… وختامًا،

لم تعد القضية الكردية تحتمل المزيد من التأجيلات، ولا مكان بعد اليوم للرماديات في مصير أمة تنزف منذ قرن.

فإما أن يكون ما يحدث اليوم بداية حقيقية لسلامٍ عادل، تُطوى فيه البندقية لصالح مشروع سياسي قومي جامع،

وإما أن يُكتب فصلٌ آخر من فصول الإخفاق والخذلان.

الفرصة نادرة…

والزمن لا ينتظر المترددين ولا المتنازعين.

فإما أن يتقدم الكرد بوحدة صفهم ورؤيتهم إلى طاولة الحل،

أو يُتركوا مرة أخرى خارج التاريخ، كما حدث مرارًا منذ سايكس-بيكو وحتى اليوم.

 

على القيادات الكردية أن تختار:

إما أن تكون اللحظة بداية مشروع وطني نهضوي، يولد من رماد قنديل،

أو أن نعود إلى دوامة التشظي، ويضيع الحلم مرة أخرى في متاهة الحسابات الضيقة.

فلتكن هذه المرة غير كل المرات…

ولتكن البداية من هنا: من وعيٍ يتجاوز الثأر، وإرادة تُقدّس الكرامة، ووحدة تكتب التاريخ من جديد.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…