إبراهيم اليوسف
نيسان واعد
بعد نسيان وتناس
خرجت إلى السطح، ومن جديد، في أعقاب مؤتمر السادس والعشرين من نيسان عام 2025 في مدينة قامشلي، الذي شكل علامة فارقة في تاريخ الكرد السوريين، أصوات ما فتئت منذ سنوات تنفث أحقادها ضد الكرد باسم قضايا زائفة. كما اعتادت هذه الأصوات أن تختبئ وراءه. إذ لم يعد الأمر مقتصرًا على معاداة” قنديل”، رغم ممارسة كثيرين من كتابنا وناشطينا الدور النقدي بحق قنديل، وأعدني أحد هؤلاء، بل امتد تهجمها ليطال كل الأحزاب الكردية، بل وكل كردي يرفع رأسه مطالبًا بحقه المشروع، تحت ذريعة أن كل كردي يناضل هو مدان ومذنب، قبل أي اعتبار.
الحقيقة العارية التي يحاولون طمسها أن مفهوم هؤلاء للأخ الكردي المقبول لا يخرج عن أن يكون تابعًا منزوع الكرامة، خانعًا أمام نزعاتهم الاستعلائية التي لا يسندها منطق ولا عززتها وقائع، بل فضحتها حرب السنوات الأربع عشرة، حيث سقطت خلالها كل أقنعة الشرعية والسيادة في مستنقعات القتل والفوضى. إن هؤلاء الذين يدّعون الحرص على وحدة البلاد، يرفضون في الوقت ذاته أي صيغة تمنح الكردي مكانته المستحقة بين أبناء وطنه. إذ لا يقبلون بفيدرالية تحفظ كرامة جميع السوريين، ولا بلامركزية عادلة، رغم أن نماذج الحكم الرشيد في الدول المتقدمة قامت وتوسعت بهذه المبادئ. إنهم لا يخفون رفضهم، بل يجاهرون به، حتى لو وُضعت بين أيديهم ضمانات دولية مكتوبة تقتلع هواجسهم، هذه، من جذورها. بل، حتى لو تم الاتفاق أن لا قنديل ولا الاتحاد الديمقراطي ولا أي حزب كردي يتدخل، وحتى لو تعهد الكرد بتشكيل هيئة قيادية مستقلة لا تبعية لها، فإنهم سيجدون ذريعة أخرى ليواصلوا رفضهم، لأن جوهر موقفهم ليس سياسياً بل عقدوي. تتجلى هذه العقدة في خريطة شعاراتهم، التي تسعى لاستنساخ خريطة عروبوية طائفية واسعة لا تمت بصلة إلى حدود سوريا الطبيعية- ولم ولا أقصد يوماً ما لا العروبة ولا الدين الحنيف- في حين تجرم كل إحساس بالكردية، وكل علاقة مشروعة بالوطن الكردستاني المجزأ، كما هي الحقيقة البائنة.
هذا الإصرار على إنكار الوجود الكردي، ورفض أبسط حقوقه، يشبه الرهان على كسر الريح. لقد أقيم العديد من المؤتمرات السورية خلال فترة ما بعد سقوط البعث والأسد، ومع ذلك استبعد الممثلون الحقيقيون للكرد منها مراراً، أو استُدرج إليها أفراد جرى اختيارهم بعناية ليتولوا مهمة تقبل شتم أو حتى شتم أبناء جلدتهم تحت ستار التبرؤ من قنديل وقسد. ومع ذلك، فإن الشرعية الحقيقية ليست دعوات صاخبة، بل أصوات من لا يزالون يعيشون بين الركام، يدافعون عن حقهم في الوجود والكرامة، مثلما حدث في مؤتمر قامشلي.
المفارقة الصارخة أن الذين يرفعون أصواتهم اليوم بالتحريض ضد الكرد، هم ذاتهم الذين لم يترددوا في الاستقواء بجيش أجنبي احتل أجزاء من وطنهم. ثم لا يتورعون من اتهام الكردي بالخيانة إن تعاطف معه طرف دولي لا يملك جنديًا واحدًا على أرضه. هذا التناقض الواضح يؤكد أن سم العقدة، كما يسميه علم النفس، هو الذي يحكم تفكير هؤلاء: السم الذي لا يسمح لصاحبه برؤية الحقيقة مهما كانت ساطعة.
إن الإصرار على إبقاء السلاح الكردي في أيدي الكرد ليس نابعًا من نزعة انفصالية، كما يحلو لبعضهم تصويره، بل بات على ضوء التجربة والمنطق منبثقاً من صميم معادلة واقعية تفرضها الأرض، حيث إن ما يحكم دمشق اليوم لم يعد دولة مركزية حقيقية- رغم إمكان تطوير نواتها بحسب تفاؤلنا ببعض التصريحات بعد تخلصنا من نظام البعث والأسد- بل فسيفساء من الفصائل المسلحة الخارجة عن القانون والتي ارتكبت من المجازر في الساحل السوري وغيرها ما يفوق كل تصور.
في هذا السياق، لا يمكن للكردي أن يرهن مصيره بيد من لم يلتزم لا بوطن ولا بدولة، ومن أثبتت الأيام أنه يبحث عن السيادة على وطن لا يعترف بكل أبنائه. الدفاع عن الكرامة الكردية اليوم ليس مجرد حق، بل ضرورة وجودية، تفرضها اللحظة الفارقة التي يعيشها الكردي في سوريا، بكل ما تحمله من تهديدات وتحديات.
الذين يرفضون الفيدرالية، ويرفضون الاعتراف بالكردي، ويرفضون أي حل إلا الإذعان الكامل، ليسوا دعاة وحدة، بل مدمرو سوريا الحقيقيون، وهم من يدفعها نحو مزيد من التشظي والانهيار. إن إصرار هؤلاء على التنكر لحقوق الكرد لن ينتج وطنًا موحدًا، بل وطنًا مسخًا تحكمه الكراهية والتناقضات.
وهنا، لابد من أن نعلم أو أن نحتكم إلى إدراك أن المفارقة الجمالية وحدها يمكن أن تنقذ الصورة، ألا وهي: الإيمان أن احترام التعدد هو الطريق الوحيد لوحدة صادقة، وأن اعتراف الكردي بكرديته لا يتناقض مع انتمائه لسوريا، بل يعززها. وأنه من دون معالجة سم العقدة، ستظل كل الشعارات بلا معنى، وكل المؤتمرات بلا روح.