ماهية ودوافع مبادرة أوجلان وفرص نجاحها

عبداللطيف محمد أمين موسى

 

إن جوهر تأثير التطورات والمستجدات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة وعلى الصعيد الدولي، ولا سيما مع تسلم الرئيس ترامب إدارة البيت الأبيض في الولايات المتحدة، وما أعقبه من تفاهمات بدأت تتضح معالمها في إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط من خلال إضعاف نفوذ حزب الله في لبنان، والمفاوضات بين حماس وإسرائيل، والحدث الأبرز المتمثل في سقوط نظام الطاغية بشار الأسد، واستلام الشرع زمام السلطة الحالية في سوريا، والتهديدات الإسرائيلية الجدية على الأراضي السورية عبر التلويح بحماية الأقليات، ولا سيما الأقلية الدرزية، والتلويح الأمريكي بفرض عقوبات على العراق في محاولة لإنهاء الوجود والهيمنة الإيرانية على العراق عبر حل الميليشيات وعدم الاعتماد على الغاز الإيراني، واشتداد الصراع على النفوذ بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمفاوضات المستمرة بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية في السعي لإعادة هيكلتها، وإيجاد حل لما تسمى الإدارة الذاتية في الشمال والشمال الشرقي السوري، كل تلك الأحداث كانت عاملاً دولياً وإقليمياً ومحلياً في السعي لإيجاد حل لملف حزب العمال الكردستاني وامتداده ونفوذه وأيديولوجيته في الدول المجاورة.

في ظل الأحداث والتغيرات الجيوسياسية على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، وفي ظل الحاجة الدولية لإيجاد حل لملف حزب العمال الكردستاني الذي استثمرت فيه الكثير من الدول في المنطقة، ولا سيما تركيا وإيران ونظام البعث في سوريا، وكذلك نظام صدام حسين، وأخيراً التوافق بين إدارة أوباما وإيران من أجل إعادة الاستثمار في الحزب في سوريا والعراق مقابل تفاهمات حول محاربة داعش، ومع إنهاء مرحلة داعش وسقوط نظام الأسد، لا بد لتلك الدول من إعادة ترتيب أوراقها وضبط إيقاع الأحداث على الخرائط الجديدة في السعي لإيجاد تفاهم حول معضلة حزب العمال الكردستاني، الذي لم يعد الاستثمار فيه ممكناً. لذا، أعتقد أن التفاهم المذكور في حل هذه المعضلة مع ملفات حزب العمال الكردستاني تمثل في النداء أو الرسالة التي أرسلها الزعيم الأيديولوجي للحزب عبدالله أوجلان من سجنه في تركيا. إن التفاهمات الدولية ووجود الأرضية الدولية لإعادة ترتيب الأحداث الجديدة في المنطقة، وفي السعي لمنع توافر الظروف والمناخ الإقليمي لمتابعة الاستثمار في الحزب المذكور، تجعل من الأرجح تنفيذ مبادرة أوجلان على الأرض على مراحل، بدءاً بإعلان هدنة لوقف القتال، ثم الإعلان النهائي لوقف إطلاق النار والتخلي عن السلاح، ومن بعدها إعلان حل حزب العمال الكردستاني، وكذلك تحول الحزب إلى حزب سياسي في تركيا وفي الدول المجاورة، مع إيجاد حل للأشخاص المؤثرين في الحزب المذكور عبر إعطائهم ضمانات بعدم المساءلة أو الاغتيال أو الإرهاب، من خلال السماح لهم بالعيش في مناطق آمنة، ولا سيما في كردستان العراق، وتقديم المنح والامتيازات لهم في اللجوء والعيش في الدول الأوروبية والتمتع بالحقوق والامتيازات المدنية. باعتقادي، سيكون الأهم من ذلك كله تحول الحزب إلى حزب سياسي يسعى إلى تغيير أيديولوجيته من منطق القتال والسلاح إلى منطق الإيمان بالعمل السياسي ضمن الدولة التركية.

لا يخفى أن تأسيس حزب العمال الكردستاني جاء نتيجة ظروف وأحداث وتفاهمات بين دول ومحاور الصراع على النفوذ في المنطقة، باعتراف أوجلان في رسالته، من خلال تأثر الحزب بمحور الشيوعية والاشتراكية في محاربة الإمبريالية. لذا، فإن هذه الحقيقة واضحة بأن حزب العمال الكردستاني تم تأسيسه من أجل الاستثمار فيه لخدمة صراع النفوذ، وهو ما تجلى في الدعم غير المحدود الذي قدمه حافظ الأسد للحزب المذكور. لذا، أعتقد أن مبادرة أوجلان جاءت نتيجة تفاهمات غير معلنة لوحت بها كثير من أقطاب الدولة العميقة في تركيا، مثل دولت بهجلي وغيرهم. من المؤكد أن الدولة التركية من مصلحتها قبول مبادرة أوجلان أو الخروج من هذا الملف بأقل قدر من التنازلات، عبر الضغط لخفض سقف المطالب الواردة في رسالة أوجلان، التي ركزت على تحقيق الديمقراطية. كما أن الظروف التي يمر بها الداخل التركي، من ارتفاع تكلفة المعيشة، وفشل مشروع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والصورة المهزوزة لتركيا نتيجة ملف حرية التعبير، وكذلك الصراعات التي أُدخلت فيها تركيا في المنطقة، ولا سيما صراعها مع اليونان، والملف السوري الشائك، وصراعها على النفوذ مع إسرائيل في سوريا وفلسطين، وكذلك صراعها مع الروس في ليبيا، ودورها في أوكرانيا، والصراع الذي بدأ يظهر بشكل أوضح مع إيران، في السعي لإنهاء استثمار إيران في حزب العمال الكردستاني، كلها أمور تشكل الدافع الأهم والأساسي للدولة التركية في التفكير جدياً في قبول مبادرة أوجلان.

باعتقادي، إن مبادرة أوجلان ستكون نتيجة حتمية لتفاهمات دولية وإقليمية، في ظل توافر الظروف الدولية لإنهاء ملف حزب العمال الكردستاني. كما أن التصريحات الدولية الإيجابية بشأن ضرورة وأهمية مبادرة أوجلان في إنهاء القتال وإحلال السلام تبعث على الكثير من الاطمئنان السياسي. من مصلحة العديد من الدول تسوية ملف حزب العمال الكردستاني في تركيا وأيديولوجيته في الدول المجاورة، وبالنسبة لأمريكا وتركيا، يعد هذا الملف أساسياً في كبح جماح التوسع الإيراني في المنطقة، ولا سيما في سوريا، حيث استثمرت إيران في حزب العمال الكردستاني كثيراً، مستغلةً الظرف الدولي في الحاجة لمحاربة التنظيمات الجهادية، واستفادت منه لدعم مشروعها المتمثل في الهلال الشيعي، ومساعدة حليفها الأسد، وكذلك توجيه الحزب المذكور لقتال تركيا والحزب الديمقراطي الكردستاني في قرى شمال إقليم كردستان. كما أن العراق سيسعى بكل جهده لإحداث تقدم في إيجاد تسوية بشأن الحزب المذكور وقبول مبادرة أوجلان، من أجل إنهاء المبرر لوجود القوات التركية على الأراضي العراقية. كما أن الاتحاد الأوروبي سيكون من أكثر المشجعين لقبول تلك المبادرة، سعياً لإحلال السلام ومنع القتال.

بالتأكيد، سيكون لقبول مبادرة أوجلان وإيجاد تسوية لملف حزب العمال الكردستاني تأثير مباشر على الإدارة الجديدة في سوريا، التي تتفاوض مع قوات سوريا الديمقراطية، وعلى المناطق الكردية في سوريا بشكل خاص، نظراً لنفوذ الحزب المباشر على تلك المناطق، التي تمثل ثلث الأراضي السورية، وخاصة المناطق الكردية، والاستفادة من موارد الطاقة وإدارة المعابر الحدودية. جاءت هذه السيطرة نتيجة تفاهمات ودعم إيراني، وبقبول أمريكي لاستغلال حزب العمال الكردستاني في محاربة داعش دون اتفاق سياسي، وكذلك الدعم الإيراني للحزب المذكور لاستخدامه في دعم مشروعها وحليفها في سوريا. إن قبول مبادرة أوجلان وإيجاد تسوية لملف الحزب في تركيا سيكون له تأثير مباشر في سحب نفوذ وتأثير الحزب على تلك المناطق في سوريا، وإخراج الشعب الكردي هناك من خدمة الأجندات والمصالح الدولية والإقليمية، ودفعهم للدفاع عن حقوقهم عبر إيجاد صيغة لتشكيل وفد كردي موحد برعاية المرجع الكردستاني، المتمثل بالرئيس مسعود بارزاني، للتفاوض مع دمشق والمطالبة بالاعتراف الرسمي بالحقوق القومية والوطنية للشعب الكردي، وتثبيتها في الاستحقاقات الدستورية السورية الجديدة. كما أن من مصلحة التفاهمات الدولية إنهاء حالة العرقلة التي يشكلها نفوذ الحزب في تلك المناطق، ولا سيما في الملف الأهم، وهو إخراج مقاتلي حزب العمال الكردستاني من سوريا.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

المحامي عماد الدين شيخ حسن   نشر مجلس سوريا الديموقراطية ( مسد) عبر صفحته الرسمية وموقعه على منصة ” X” مقالاً لعبد القادر موحد، عضو المجلس التنفيذي في مجلس سوريا الديمقراطية، بعنوان: ( المصطلحات القومية في الفكر الاوجلاني من ” الشعب الكردي” الى ” المجتمع الكردي” و” المجتمع الاصيل”)، وسرعان ما جرى حذف المقال وازالته من الموقعين. وبالنسبة لي شخصيّاً،…

صلاح بدرالدين   بحكم تواجدنا القسري في لبنان في سنوات نظام البعث وحكم الدكتاتور حافظ الأسد ، تعرفنا عن كثب على قادة الحركة الوطنية اللبنانية وفي المقدمة الشهيد كمال جنبلاط ، الذين استقبلونا برحابة الصدر ، ولاننا كنا مستهدفين من أجهزة ذلك النظام الشوفيني المجرم ، فقد قدم لنا الرفاق اللبنانييون ، والأصدقاء في منظمة التحرير الفلسطينية ، كل أسباب…

قبل أحداث الملعب البلدي (الدَّامية) في قامشلو (يوم الجمعة 12 آذار عام 2004م)، والتي أعقبتها مُباشرةً انتفاضةُ كرد قامشلو.. في ذلك الوقت كنتُ مُقيماً في بلدة نصيبين التركية الجارة الملاصقة لقامشلو، أمارس عملي كطبيبٍ أسنان، وكذلك كنتُ أكتب المقالات تحت اسمٍ مستعارٍ (بافي رامان)، والقلَّة من الأصدقاء كانوا يعرفونني بذلك الاسم المستعار، الذي ظلّ طي الكتمان، فقد كنتُ أبعثُ مقالاتي…

المهندس باسل قس نصر الله   الرحيلُ هو نوعٌ من الهروبِ نتيجةَ الخوفِ من البقاءِ. هذه حالُ الكثيرِ من المسيحيينَ – والأقلياتِ الأخرى – الذينَ يواجهونَ اليومَ تحدياتٍ جسيمةً تتعلقُ بالخوفِ والهجرةِ، بعدَ الصراعِ الدامي الذي عصفَ بالبلادِ منذ عامِ 2011 حتى 2024، فقد أدّتِ الحربُ إلى تدهورِ الأوضاعِ الأمنيةِ والاقتصاديةِ، مما دفعَ بالعديدِ من المسيحيينَ إلى مغادرةِ وطنِهم بحثاً…