كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة العاشرة (فيصل يوسف *)

رغم مرور عشرين عاماً لا زلنا نتذكّر بألمٍ وحزنٍ ما شهدتْه المناطق والأحياء الكردية في المدن الكبرى كالعاصمة دمشق وحلب إبّانَ انتفاضة قامشلو 12 آذار 2004م من الأيام العصيبة والأجواء المرعبة التي خيّمت على تلك المناطق من قبل الأجهزة القمعية للنظام عبر إطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين السلميّين، والاعتقالات العشوائية التي طالت الكرد على الهوية، والمداهمات الليلية على منازل النشطاء، ليس هذا فحسب، بل وبغية إرهاب الكرد قامت السلطات السُّوريّة بتوزيع السلاح على بعض المأجورين وحشد أزلامه من بعض رؤساء العشائر العربية (وهم قلّةٌ قليلةٌ) على غرار الميليشيات المسلّحة، حيث قامت بكسر أبواب المحالِّ التجارية ونهب وسلب محتوياتها بإشراف وتوجيه الأجهزة الأمنية التي كانت ترمي من وراء ذلك خلق فتنةٍ بين المكوّنات المتآخية في البلاد، ولو رجعنا إلى الوراء لنستذكر يوم 12 آذار 2004م، عندما جاءتِ المئات من جمهور نادي الفتوة، صالتْ وجالتْ في شوارع قامشلو قبل المباراة المقرّرة بين الناديين (الجهاد والفتوة) وهي تهتف بحياة صدّام حسين وتردّد شعاراتٍ وهتافاتٍ مسيئةً للكرد ورموزهم على مرآى ومسمع كافّة الأجهزة الأمنية، التي لم تحرّك ساكناً، علاوةً على الاشتباك اللفظيّ والجسديّ مع مشجّعي نادي الجهاد قبل بدء المباراة، ومن الواضح أنّ هذه الممارسات العنفية كانت ممنهجةً ومدفوعةً من جهاتٍ حاقدةٍ وشوفينيةٍ؛ لإرهاب الكرد وثني إرادتهم عن المطالبة بالحقوق القومية المشروعة، ولاسيّما بعد الإطاحة بالنظام الديكتاتوريّ في بغدادَ والمكاسب التي حقّقها الشعب الكرديّ في كردستان العراق.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أحزاب الحركة السياسية الكردية بمجموعها طالبتْ بإجراء تحقيقٍ مستقلٍّ عن الأحداث الدامية، ولكنْ لم تلقَ آذاناً صاغيةً من أيّة جهةٍ محليةٍ أو دوليةٍ .
لا مبالغة في القول بأنّ المحرّك الأساسيّ لانتفاضة قامشلو هم شباب الكرد الذين كانوا أكثر إصراراً وتصميماً على التصدي للجور والاستبداد من خلال قيادتهم للمظاهرات السلمية وبصدورٍ عاريةٍ والتي واجهتْها أجهزة المخابرات باستخدام القوّة المفرطة، ولا شكّ في أنّهم قدّموا تضحياتٍ جسام وكسروا حاجز الخوف؛ لتتسع دائرة الاحتجاجات لتشمل كافة المناطق الكردية في أماكن تواجد الكرد في المدن الأخرى، وفي الجامعات السورية والمدن الجامعية، وكان للنساء دورٌ مميّزٌ في مجريات الانتفاضة ضدّ السياسات الشوفينية للنظام السُّوريّ ونظرتهم الدونية للكرد والمظالم التي تراكمت خلال عقودٍ من الزمن في ظلّ الأنظمة السُّوريّة المتعاقبة، ممّا فجّر الغضب المحتقن لدى الشباب الكرد المحرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية.
ولا يخفى أنّ اندلاع انتفاضة قامشلو كان عفويّاً، ولم تكن تلك الانتفاضة بقرارٍ من الحركة الوطنية الكردية، بل جاءت نتيجة ردِّ فعلٍ طبيعيٍّ على أحداث الملعب الدامية وما رافقها من جرائم ضدّ المواطنين العزّل.
زيادةً على ذلك لم تكن هناك قيادةٌ سياسيةٌ للانتفاضة، أو غرفة عملياتٍ، بل فرضت على الأحزاب الكردية أنْ تجتمع على خطابٍ واحدٍ، وتتفق على وحدة الموقف والكلمة تحت مظلّة: (مجموع الأحزاب الكردية)؛ لمجابهة التحديات التي كانت تحيط بشعبنا ومواكبة متغيّرات وتطوّرات مجريات الانتفاضة وما آلت إليه الأوضاع في المناطق الكردية، وأصدرت بهذا الخصوص عدّة بياناتٍ تهدف إلى تهدئة الشارع الكرديّ، وتجنّب المساس بمؤسسات الدولة، والحفاظ على سلمية التظاهرات وعدم الانجرار إلى مواقع لا تحمد عقباها تصبّ في خدمة جهاتٍ معاديةٍ لا تريد الخير للكرد، ويجب أنْ لا يفوتنا بأنّ رؤساء الأجهزة الأمنية هدّدوا قيادة مجموع الأحزاب الكردية بأنّهم على استعدادٍ أنْ يفعلوا بالمناطق الكردية على غرار سيناريو مدينة حماة 1982م، وبالرغم من التهديد والوعيد من قبل النظام الذي استخدم مختلف أساليب القمع بحقّ المتظاهرين من الاعتقال والتنكيل والتعذيب حتى الموت وزجّ الجيش والميليشات؛ لإخماد الانتفاضة إلا أنّها استمرّت أياماً عديدةً ضدّ الاستبداد في ظلّ صمتٍ مريبٍ للمجتمع الدوليّ، ويجب أنْ نقرّ أنّ مواصلة أو استمرار الانتفاضة لم يكن بالأمر السهل كما يظنّ بعضٌ، وذلك بسبب غياب الدعم أو التضامن من المكوّنات السُّوريّة الأخرى التي مالتْ إلى النظام ضدّ الشعب الكرديّ، وفي ظلّ عدم تأييد أو تضامن الجهات الدولية مع الانتفاضة، تلك الجهات التي تشابكت مصالحها وأجنداتها (مخطّطاتها) مع النظام السّوريّ على حساب مبادئ وحقوق الإنسان، إلى جانب تصاعد منسوب العنف والقمع ضدّ المنتفضين الأمر الذي حال دون استدامة الانتفاضة.
من جانبٍ آخر حقّقت الانتفاضة نجاحاً باهراً في إيصال رسائلها وصداها إلى الداخل السّوريّ وخارجه، حينها أضحى الملفّ الكرديّ حديث الناس بين كافّة شرائح سوريا وموضع اهتمامٍ وفرصةً سانحةً لتعريف الرأي العام السّوريّ بالشعب الكردي والغبن الذي لحق به وبأهدافه ومطالبه المحقّة، وكذلك عن أماكن تواجده وجغرافيّته وتعداد أفراده في سوريا، وتصدر الموضوع الكرديّ أولويات الحركة الوطنية السّوريّة وكذلك المثقّفين والمتابعين والمهتمّين بالشأن السّوريّ، وفي هذا الصدد اعترف الرئيس السّوريّ بشار الأسد بالكرد حينما قال: (الأكراد جزءٌ من النسيج الوطنيّ السّوريّ ومن تاريخ سورية).
ومن البديهي أنّ أيّةَ قضيةٍ لا تستمدّ شرعيّتها من عدالتها، بل من مدى إمكانية تطبيقها وتنفيذها على أرض الواقع، وأنّ القوى الدولية لا تتعامل أو تتعاطى مع أيّة قضيةٍ بمنظور الجمعيّات الخيرية، بل وفق مصالحها وأجنداتها؛ ولهذا فإنّ مصالح القوى الفاعلة مع النظام السّوريّ حالت دون الاهتمام المنشود بانتفاضة قامشلو واعتبرتها شأناً داخلياً، كما أنّ المدّة الزمنية القصيرة للانتفاضة أدّت إلى عدم تبلور تأثيرها في المشهد الدولي.
كما نعيد إلى الأذهان الزيارة المفاجئة للرئيس المصري الراحل حسني المبارك إلى سوريا تزامناً مع الانتفاضة ولقاء الأسد بغرض تقديم النصيحة والمشورة واحتواء الواقع الجديد بأقلّ الخسائر.
لقد شغل موضوع الانتفاضة وسائل الإعلام المحلية والعربية، وبدرجة أقلّ الدولية، وتصدّرت عناوين نشرات الأخبار لعديدٍ من المحطات التلفزيونية في ذلك الوقت، ولا ننسى موقف القنوات المحلية السُّوريّة التي كانت تحرّض ضدّ الكرد؛ لتأليب الرأي السّوريّ ضدّنا، وتبثّ أخباراّ كاذبةً وخطاباً محمّلاً بالكراهية بحقّ المنتفضين واتهامهم بالغوغائيّين والمخرّبين والمشاغبين لتشويه وقلب الحقائق على الأرض /الواقع/  بينما كانت القنوات العربية /الجزيرة والعربية../ تجري اتصالاتٍ مع النشطاء الكرد وسكرتارية أحزاب الحركة السياسية الكردية؛ لإحاطتها بالأحداث والواقع في المناطق الكردية المنتفضة، وتوّجت ذلك بعرض حلقةٍ خاصةٍ من برنامج الاتجاه المعاكس حول القضية الكردية في سوريا كونها حدثاً بارزاً.
وفي سياقٍ متصلٍ خرجت العديد من التظاهرات المؤيّدة لانتفاضة قامشلو في عموم كردستان؛ دعماً لها واستنكاراً ورفضاً للممارسات القمعية والأمنية لنظام البعث ضدّ الكرد في سوريا، وأذكر أنّ شعار إحدى المظاهرات في كردستان العراق كان: / كردستان يك برجيي قامشلو حلبجه يي/
/Kurdistan yek perçeye Qamişlo Helebçeye
كما استقبل الرئيس مسعود بارزاني، وقتها، مجموعةً من الشخصيات السياسية والاجتماعية الكردية من سوريا، واستمع لآرائهم ومقترحاتهم بخصوص الانتفاضة، وكيفية تخفيف معاناة الشعب الكرديّ معرباً عن دعمه ومساندته للحقوق القومية المشروعة في سوريا.
أمّا فيما يخصّ الإعلام الكرديّ فقد كان ضعيفاً وغير مؤثّرٍ، ودوره لا يكاد يذكر، وليس بمستوى ذلك الحدث التاريخي، ناهيك عن قلّة الفضائيات والوسائل الإعلامية لنقل الحقائق والمعطيات على الأرض والتأثير على الرأي العام المحلي والدولي.
أمّا بخصوص الجالية الكردية في أوروبا وخارجها يمكن القول بأنّها لعبت دوراً إيجابياً ومؤثراً وكانت سنداً لانتفاضة الداخل، حيث نظّمت العديد من التظاهرات والاحتجاجات المنددة بسياسة السلطات السّوريّة تجاه الشعب الكرديّ المحروم من أبسط حقوقه القومية المشروعة، وكان دور الفعاليات الكردية مكمّلاً وداعماً من كافة النواحي في الداخل، إضافةً إلى نقل معاناة الكرد في ظلّ الاستبداد إلى السفارات والأوساط السياسية الأوروبية وغيرها للوقوف إلى جانب الشعب الكرديّ وتطلّعاته القومية.
صحيحٌ أنّ شعبنا قدّم العديد من الشهداء قرابين للانتفاضة، وتضحياتٍ جسام من أجل الحرية والمساواة، وتعرّض لحملاتٍ مسعورةٍ أكثر حدّةً إلا أنّ انتفاضة آذار المجيدة شكّلت منعطفاً في تاريخ نضال شعبنا الكرديّ في سوريا وكفاحه للخلاص من الظلم والقمع، ولاحقاً لجأ النظام للانتقام من الكرد في عشية نوروز 2008م، حيث تمّ اغتيال ثلاثة شبان من الكرد /المحمدون الثلاثة/ وصدر قانون رقم 5 السيئ الصيت؛ استكمالاً للمشاريع العنصرية والقوانين الاستثنائية الجائرة بحقّ الكرد بغرض ثني إرادتهم في مواصلة النضال من أجل مطالبهم العادلة .
وعقب الانتفاضة عقدت لقاءاتٌ وتفاهماتٌ بين أغلب أحزاب الحركة السياسية الكردية والسّوريّة، وتمّ الاتفاق والتّوصّل إلى تشكيل تجمّعٍ معارض باسم: إعلان دمشق المعارض الذي جاء في بيانه التأسيسي: /أنّ القضية الكردية جزءٌ لا يتجزّأ من القضية الوطنية السُّوريّة، وهي قضيةٌ وطنيةٌ بامتيازٍ ويجب حلّها سلمياً في إطار وحدة سوريا.
وداومت الحركة الكردية على إحياء مناسبة 12 آذار من كلّ عامٍ، ولاحقاً المجلس الوطنيّ الكرديّ من خلال الوقوف 5 دقائق إجلالاً لأرواح الشهداء، وإشعال الشموع ليلاً على شرفات المنازل وزيارة قبور الشهداء يوم 12 آذار بمسيرةٍ تضامنيةٍ، إضافةً إلى إلقاء الكلمات تعبيراً عن الوفاء لهم، ووضع الزهور على أضرحتهم وزيارة أهليهم، ليس هذا فحسب، بل تمّ تحديد يوم 12 آذار يوماً للشهيد الكرديّ في سوريا تقديراً واحتراماً له .
وفي  الختام ستبقى ذكرى انتفاضة قامشلو 2004م، راسخةً،  دامغةً،  في أذهان أبناء الشعب الكرديّ، وستدوّن أحداث الانتفاضة في كتب التاريخ الحديث للكرد، وستدرّس مستقبلاً في المدارس والجامعات الكردية وبرأيي المتواضع هذه الانتفاضة حقّقت مبتغاها، وأعطتْ دفعاً قوياً للقضية الكردية، وبعداً محلياً وإقليمياً ودولياً، ورسمت الانتفاضة التي بدأت من قامشلو إلى عفرين مروراً بكوباني لأول مرّةٍ في تاريخ  سوريا خريطةَ كردستان سوريا على أرض الواقع؛ لأنّ المناطق التي خرجت منها التظاهرات وسقط على أثرها شهداء في آذار 2004م، من ديريك إلى جنديرس هي مناطق كرديةٌ بأمتيازٍ /كردستان سوريا/.
وأخيراً لا يمكن أنْ تشهد سوريا استقراراً بمعزلٍ عن إيجاد حلٍ سياسيٍّ للقضية الكرديّة في إطار سوريا.
  • قيادي سياسي وكاتب

 

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…