كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة الثانية والثلاثون (ريبر هبون*)

لم نكنْ بعيدين عمّا يجري في قامشلو، فمدينة منبج، على الرغم من أنّ كردها أقليةٌ، كانت مسرحاً لتجاذبات الأحزاب الكردية، وكان كردها على درجةٍ من الوعي والوطنية..

كنتُ في 16 من عمري حينذاك في الصف الأول الثانوي في مدرسة الشهيد محمد راغب هارون، أذكر حينها أنّ أستاذ اللغة العربية علي صالح الجاسم وقف في منتصف القاعة مخاطباً إيّاي وسط جمهرة الطلاب: – شو سوّم ربعك بقامشلي يا ريبر..؟. 

استغربتُ من هذا السؤال وابتسمتُ، فأكمل: لقد رفعوا العلم الكردي أيضاً.. أتمنّى من رجال الأمن أنْ يضبطوا أنفسهم كيلا تتكرّر أحداث مدينة حماة.. كلّنا جندٌ للوطن. 

أحد الطلاب راح يقول له مذكّراً بما قامت به عشيرة (البوبنا) بأمرٍ من شيخها (ذياب الماشي) عندما اندلعت أحداث الإخوان في حماة.. فراح يقول للأستاذ: إنّ جدّه راح يقول للمسؤولين حينذاك إنّنا جاهزون لفعل ما يلزم؛ لقمع هذا الشغب، وقد استطاع جدّه حينذاك أنْ يجمع عدداً لابأس به من المسلحين، ووضعهم تحت تصرّف الحكومة السّوريّة.

أبدى الأستاذ علي صالح الجاسم إعجابه بما قاله، حيث قال: إنّ ذياب الماشي من عشيرة (البوبنا) هو أقدم برلمانيٍّ سوريٍّ، وأنا كفردٍ من العشيرة أفخر به..

هذا الأستاذ (علي صالح الجاسم) سرعان ما أصبح ثائراً بعد اندلاع الثورة السّوريّة في مدينة درعا ، فهو جنديّ النظام حين يتعلّق الأمل بثورة الكرد في قامشلو، ومن الثوار ضدّ النظام عندما يتعلّق الأمر بمظلومية بني جلدته..!.

يوم الانتفاضة مرّ ببطءٍ وقتها.. نظرات الطلاب إليّ لم تتوقّف، وكذلك النعوت التي اعتدتُ على سماعها من قبيل: بيشمركة خائن، أو عندما يأتي الموجّه إلى الصف، يقول له طالبٌ معتقداً أنّه يضفي على الجو مشهدَ مرحٍ وهو يقول: أستاذ.. دعنا نفتّش ريبر جيداً، ربّما كان في حوزته حزامٌ أو قنبلةٌ يريد تفجيرها بنا.. هذا ما شجّع غيره على تكرار هذه الدعابة السمجة عند الانصراف والخروج من باب المدرسة: لنمسكه ولننتزع منه الحزام قبل أنْ تنفجر القنبلة بنا؛ لتتردّد ضحكات البقية من التلاميذ ممن وجدوا شيئاً يلهون من خلاله.

طالبٌ آخر يمسكني من ياقتي، وآخر من ذراعي: ما رأيكم أنْ نلقّن هذا الكردي درساً لا ينساه.. الأكراد خونةٌ ولا أمان لهم..

في ذلك اليوم شعرتُ بغبطةٍ داخليةٍ أحالت غضبي إلى رضا، رغم دعابات الزملاء التي كانت تتطوّر ببطءٍ إلى رغبةٍ في مشادّةٍ أو شجارٍ متوقّعٍ..

الكرد ينهضون.. ينتفضون في قامشو وفي عفرين.. وكذلك في كوباني وفي رأس العين.. هاجم المنتفضون كلّ الدوائر الحكومية ووضعوا يدهم عليها، كما قال محمود كنو، وهو زميلٌ كان يتردّد مع أهله لزيارة رأس العين كونهم يمتلكون أرضاً زراعيةً هناك..

كلّ هذه الأخبار بمعزل عن صحتها أو زيفها ومبالغتها أسعدتْني من الداخل.. وأخيراً تلقّفت بيان حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي نعت ما حدث في قامشلو بالعمل البعثيّ الجبان، قرأتُ البيان بعجالةٍ وأذناي تستمع إلى نشرة الأخبار الرسمية.. 

أحد المسؤولين خرج عبر التلفاز؛ ليتحدّث عمّا جرى في قامشلو.. وراح يثني ويشيد بالكرد بأنّهم جزءٌ منّا.. ضحك أبي حينها وقال: لقد أيقنوا أنّنا الكرد متّحدون ولن يلعبوا معنا مرةً أخرى، أو يفكّروا بالاقتراب منّا واستفزازنا.

شعرتُ بفرحٍ راح يغمرني، إنّنا هنا على هذه الأرض.. وحينما سمعتُ بنبأ تدمير تمثال حافظ الأسد في عامودا.. كانت تلك اللحظات أعنف الهنيهات مسرّةً بالنسبة لي.. لفتىً تضطرم فيه جذوة القومية على نحوٍ جنونيٍّ لا يخلو من رهبة توقّع أنْ يكون ردّ السلطات الأمنية أعنف..!، فالاعتقالات لم تتوقّف أبداً بعد ذلك.

 

* كاتب وروائي

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…