قبل أحداث الملعب البلدي (الدَّامية) في قامشلو (يوم الجمعة 12 آذار عام 2004م)، والتي أعقبتها مُباشرةً انتفاضةُ كرد قامشلو.. في ذلك الوقت كنتُ مُقيماً في بلدة نصيبين التركية الجارة الملاصقة لقامشلو، أمارس عملي كطبيبٍ أسنان، وكذلك كنتُ أكتب المقالات تحت اسمٍ مستعارٍ (بافي رامان)، والقلَّة من الأصدقاء كانوا يعرفونني بذلك الاسم المستعار، الذي ظلّ طي الكتمان، فقد كنتُ أبعثُ مقالاتي إلى مواقع الإنترنت الموجودة حين ذاك..
– في صباح يوم الجمعة (12 آذار 2004م) أعلمني بعض المقرّبين بالهتافات الاستفزازية التي طالت رموز الشعب الكرديّ، أطلقها جمهور نادي الفتوة بُعيد وصوله إلى قامشلو وتجواله في شوارعها.. حيثُ كان مشحوناً (على ما يبدو بعد سقوط صدام حسين) وبعض العنصريّين كانوا يعتقدون بأنّ الكرد هم السبب لِمَا جرى للنظام البعثيّ في العراق.. فلم يرقْ لهُم رؤية إقليم كوردستان العراق ينعم بالحرّيّة، وتتحوَّل الأمور لصالح الكرد..! ثم تحديداً بعد ظهر يوم الجمعة علمتُ بما جرى في ملعب قامشلو بين جمهوري نادي الجهاد ونادي الفتوة (ضيفه القادم من دير الزّور)، وذلك عبر مواقع الإنترنت والقنوات التلفزيونية.. وعلى إثرها انتشرت أخبار الكارثة التي أصابتِ الكرد ووقعت في مدينة قامشلو بسرعة البرق، وباتت حديث عامة الكرد (في الوطن والشتات)، والجميع يحاولون الاتصال بأهليهم (المقيمين في قامشلو) عبر الهواتف..؛ لكون الإنترنت حينها كان مقطوعاً في قامشلو.. حيثُ الهلع والرّعب كانا مُسيطرين على مدينة قامشلو؛ نتيجة وقوع أعدادٍ كبيرةٍ من الجرحى، وسقوط بعض شباب الكرد شهداء برصاص قوات النظام السّوريّ.. وأنّهُ سوف يتمّ تشييع جنازاتهم يوم غدٍ (السبت 13 آذار).
– بعد مرور 24 ساعة على الانتفاضة وربما أكثر، وفي اليوم الأوَّل الذي سُمح فيه بالعبور عبر بوابة نصيبين الحدودية (بين تركيا وسوريا)، اتصل بي الصديق إبراهيم اليوسف عن طريق خطّ الهاتف التركي، وقال لقد تدبّرنا أمر تهريب الفيديوهات عن طريق بعض أولاده وصديقٍ لهم يساعدهم في تهريبها، وقد جرت الاتصالات بيننا (أنا والشباب وإبراهيم اليوسف)، وبعد ساعاتٍ مِنْ انقطاع التواصل بيني وبين الشباب، تخللتها فتراتٌ من القلق والتَّرقب والخوف (مِنْ اكتشاف الأمر).. إلا أنّهُم (الشباب) أعلموني بأنّ هناك امرأةٌ (عجوز) قد عبرت الحدود ومعها (بيدها ) الفيديوهات، حيثُ وُضِعتْ في فيديو كاسيت عليه صورة الفنان بافي طيار.. وكُنتُ أنتظر على الطرف التركي مِنَ البوابة الحدودية، وبعد استلامي الكاسيت من المرأة (العجوز) على الفور سارعتُ في إرسال نسخةٍ مِنْ مضمونهُ للصحفي الكرديّ (سيروان حاج بركو)، وأرسلتُ نسخةً أخرى إلى تلفزيون كردستان تي في؛ ليتمّ نشر الفيديوهات على نطاقٍ واسعٍ، وكانت تلك الفيديوهات هي الأولى التي أُرسلت عن طريقي، وقام الصّحافيّ سيروان بنشرها على نطاقٍ واسعٍ، كما علمتُ.. وقد نشرتُ بعض الصور واللقطات فور وصولها بسبب بطء الإنترنت منذ اللحظة الأولى من وصولها إليً.. بعد تلك الأيام العصيبة بدأت تتوافد عليّ وعلى سواي الفيديوهات عن طريق الإنترنت؛ وذلك عندما عادت الحياة للإنترنت بعد حملة الاعتقالات والمداهمات.
أمّا عمّا جرى يوم السبت (13 آذار) خلال تشييع جنازات شهداء يوم الجمعة (12 آذار)، فقد تعرّضت مواكب المشيّعين (في شوارع قامشلو) لإطلاق الرصاص الحيّ المباشر عمداً من قبل قوات النظام البعثيّ السّوريّ (عناصر الشرطة والفروع الأمنية)، الأمر الذي أدّى إلى وقوع مجزرةٍ بشعةٍ إضافيةٍ، راح ضحيّتها أعدادٌ كبيرةٌ من الجرحى والشهداء في صفوف المشيّعين.. وقد وصلتنا أخبارٌ مفادها أنّهُ تمّ تهديد مدينة قامشلو.. وسمعنا عن وصول قوَّاتٍ عسكريةٍ آتية من دير الزور.. وأنّها سوف تدمّر المدن الكردية المنتفضة.. وكان ما يشغلنا هو: كيف سيتمّ تأمين وصول الفيديوهات من قامشلو إلينا (بسبب بطء الإنترنت)..؟؛ لذلك كان لا بدّ من إيجاد طريقةٍ لإيصال الفيديوهات.. ثمّ إيصالها إلى الخارج..؛ ليطّلع الرأي العام العالميّ على ما فعلتهُ قوَّات النظام البعثيّ العنصريّ في سوريا بحقّ كرد قامشلو وعامّة كرد سوريا.
– توثّقت علاقتي بأولاد إبراهيم اليوسف الذي أوصاني بالتواصل معهم.. وكانوا ينقلون إليَّ الأخبار يومياً (وبشكلٍ متواصلٍ من دون انقطاعٍ)، وكذلك توثّقت علاقتي فيما بعد مع سليمان تمو وشقيقته الدكتورة روفند، والكثير من الأصدقاء.. فكان التعاون فيما بيننا كبيراً وإيجابياً بهدف جمع أكبر قدرٍ مِنَ الأخبار والمعلومات الموثَّقة.. فيتمّ إيصالها بشكلٍ لحظيٍّ وفوريٍّ؛ لنشرها عبر مواقع الإنترنت الكرديّة كافّةً، كموقع: كسكسور، وموقع عامودا كوم، وموقع عفرين كوم، وموقع قامشلو، ومواقع أخرى تأسّست في الخارج للعمل على دعم الانتفاضة.. وكذلك كان يتمّ إيصالها إلى القنوات الفضائية.. وعلى العموم فإنّ المواقف التضامنية لأبناء الشعب الكرديّ (في داخل سوريا وخارجها) كانت مشرّفةً، من خلال تكاتفهم ووقوفهم صفّاً واحداً تجاه الأساليب الأمنية (الدموية) البشعة التي استخدمها النظام الدمويّ ضدّ كرد سوريا.. وقد أقيمت العديد مِنَ الاعتصامات والكثير مِنْ الندوات في دولٍ خارجيةٍ مُختلفةٍ..
أذكرُ بأنّهُ وصلتني فيديوهات وصورٌ كثيرةٌ.. منها: استلمت عبر الانترنت بعض الصور و الفيديوهات (عن الجرحى الذين كانوا يُعالجون في المشافي) من الدكتورة الصيدلانية روفند تمو وشقيقها سليمان تمو، حيث كانا يعملان بالتنسيق مع عددٍ من الشباب المستقلّين.. إضافةً لذلك كُنتُ على تواصلٍ مع بعض الأطباء والممرضين العاملين في عدَّة مشافٍ (النور وفرمان والرحمة) وقد أرسلوا إليَّ بعض صورٍ للجرحى.. كما وصلتني بعض الصور للمظاهرات من قبل أفراد عائلتي المتواجدين حينها في قامشلو.. فكنتُ أرسل كُلّ تلك الصور والفيديوهات إلى القنوات الفضائية وإلى مواقع الإنترنت..؛ لتتوضَّح الصورة الحقيقية لِمَا جرى لكرد سوريا أمام الرأي العالمي.. وخلال تلك الفترة كان بيتي قد تحوَّل إلى ما يُشبه المركز الإخباريّ، حيثُ كُنتُ على تواصلٍ دائمٍ مع جميع المدن التي امتدّت إليها الانتفاضة (من قامشلو إلى دمشق) أُتابع الأحداث الجارية فيها لحظةً بلحظةٍ..
– كما أنّ العمل في البالتوك.. ازداد في دول الخارج، حيثُ كان وسيلةً لعقد الاجتماعات وتبادل الآراء والتخطيط لمساعدة الأهل داخل سوريا ودعمهم بكلّ ما يمكن (مادياً وثقافياً وإعلامياً وسياسياً)، فكنتُ مِمَّن شاركوا في بعضها.. نستمع إلى ما يدور فيها من حواراتٍ هامةٍ ومفيدةٍ، حيثُ كانت تجمعنا روح الحماس والإحساس بضرورة أنْ يكون لنا، ككردٍ، صوتنا المسموع في مواجهة المجزرة المفتوحة ضدّ كرد سوريا..
والآن (بعد مرور حوالي عشرين سنة على الانتفاضة) قد سمعتُ عن بعض الأشخاص بأنّهُم (أثناء تلك الأحداث) فعلوا كذا وكذا..، والحقيقة العملية (الواقعية حينها): هي أنّ المشاركة الجماهيرية كانت ضخمةً/ كبيرةً وعفويةً خلال تشييع الشهداء والمظاهرات المُندّدِة بالنظام… ولكنْ بعد حملة الاعتقالات العشوائية التي نفّذتها سلطات النظام البعثيّ السّوريّ في اليوم الثاني.. فقد تضاءل (قلَّ كثيراً) عدد الذين كانوا يُسخِّرون جهودهُم العملية (في مختلف المجالات) لدعم الانتفاضة؛ ليصبح هؤلاء معدودين وقلٌّة جداً..
– ملاحظةٌ مهمةٌ (للتنويه): أثناء هجوم القوَّات المسلحة للنظام البعثيّ السّوريّ على المشيّعين والمتظاهرين.. ووقوع أعدادٍ كبيرة من الجرحى وسقوط العديد من القتلى (شهداء)… وما تلاه من حملة الملاحقات لبعض الأصدقاء.. فقد قمتُ بإجراء الاتصالات مع عدَّة مجموعاتٍ حقوقيةٍ.. وبعض لجان حقوق الإنسان.. في محاولةٍ لفتح قنوات التواصل مع السلطات التركية..؛ لتأمين ممرٍّ/ منفذٍ آمنٍ للنازحين والجرحى.. وكذلك الشباب الملاحقين من قبل الأجهزة الأمنية السّوريّة (مِنْ كرد قامشلو)؛ لكي يتَّجهوا إلى تركيا (عبر الممرّ الآمن)، وفعلاً حصلتُ على موافقة الجهات المختصة والسلطات المحلية التركية بالسماح لهؤلاء المعنيّين بالعبور إلى تركيا لتتأمّن لهم الرِّعاية والحماية.. بعدها (مباشرةً) قمتُ بالاتصال مع الأخ سليمان تمو، وأعلمتُه بموافقة الجهات التركية.. وعلى ضوء ذلك سيتمّ استقبال القادمين إلى تركيا.. وبالتالي نستطيع وبالتعاون مع القادمين بذل الجهود لتدويل قضية كرد سوريا، وتحقيق أهداف انتفاضتهم.. إلا أنّ هذه المحاولة باءت بالفشل، بسبب بعض الأشخاص مِمَّنْ تواصل معهم سليمان تمو، أُولئك رفضوا تنفيذ المحاولة بداعي الخوف من الوقوع في الفخّ..
* طبيب وكاتب من قامشلي يقيم في تركيا