كانتِ الأعوام الأخيرة من التسعينيات أعوام محلٍ وقحطٍ، وتسبّبت في هجرة عشرات الآلاف من الكرد (شعب الله المهاجر) من مدنهم وقراهم- مرةً أخرى- نحو دمشق وحلب وغيرها من المدن، هائمين على وجوههم، تائهين يبحثون عن لقمة عيشٍ بكرامةٍ لهم ولعائلاتهم، في وطنٍ تنكّرت سلطاته المتعاقبة لكلّ أسس الشراكة، والتضحيات الجسام وحرمتهم- فقط كونهم خلقوا كرداً- من أبسط حقوقهم ومن أقلّ مقومات الحياة، واستبدّ بهم الطغيان والسياسات الاستثنائية طيلة عقودٍ عديدة، ورسمت على الوجوه والقلوب كلّ ملامح الحرمان والحزن والأسى.
في هذا الطقس القاسي ألجُ- مضطراً، حيث لا فرص لتوظيفي أمنياً- في عالم المحاماة لأتخرّج محامياً أستاذاً عام 2003م، العام الذي حمل معه تحولاتٍ كبيرةً للمنطقة والعالم، في هذا العام يسقط الصنم في بغداد ومع سقوطه يتهاوى مريدوه وأتباعه من أصحاب الفكر الشوفينيّ، ويسطع نجم الكرد في كردستان العراق في إقليمٍ فيدراليٍّ، إقليم يسارع ويسابق الزمن في سعيه للالتحاق بركب الدول المتقدمة، وبناءِ ما دمّره الطغاة والمستبدين من بشرٍ وحجرٍ وشجرٍ طيلة العقود الماضية، ومع الكرد في إقليم كردستان العراق تنتعش آمال الكرد في بقية أجزاء كوردستان والعالم، ومنهم أبناء الشعب الكرديّ في سوريا في أنّ ليل الظلم لا بدّ أنْ ينجلي، وأنّه لا بدّ للقيد أنْ ينكسر، يشتدّ غيظ أيتام الصنم،- حيث لم يعد لهم حولٌ ولا قوةٌ في العراق، فقد خرجت الأمور عن السيطرة-؛ ليتحوّلوا وتحت جنح الظلام- كالخفافيش- نحو سوريا وكردها بمؤامرةٍ خبيثةٍ، سوريا التي ظلّ النظام البائد في العراق يعاديها طيلة مدّة حكمه المستبدّ، ولسان حال هؤلاء الأيتام يقول: ليكن من بعد ربيبنا البائد الطوفان وعلى الكلّ.
تعلن صافرة الحكم عن بدأ المباراة في الملعب البلديّ في قامشلي (ملعب شهداء الثاني عشر من آذار) الآن بين فريق الفتوة وجمهوره، الذي يتملّكه- بحكم الجغرافيا وصلات القربى والعاطفة الجمعية وغريزة القطيع- مشاعر الحزن والأسى لما آلت إليه الأوضاع في جواره العراقيّ، وبين فريق (الجهاد) وجمهوره- الذي جلّه من المكوّن الكرديّ- المنتعش بحكم عاطفته القومية والتاريخية ووحدة الحال بمشاعر الفرح والسعادة بما تحقّق للكرد في كردستان العراق من انتصاراتٍ..
لم يمضِ من زمن المباراة إلا بضع دقائق؛ ليبدأ العشرات من المندسّين القادمين مع جمهور الفتوة في نفث سمومهم من مدرّجات الملعب؛ لإحداث فتنةٍ كبرى- محبوكةٍ- بين الكرد وسلطات البلاد، فتنة تطال الكرد وتنال من الدولة السّوريّة.. إذْ إنّ أصحاب هذا الفكر المريض لا تستوعب عقولهم بقاء دولةٍ في المنطقة قائمةً وكيف إذا كانت سوريا..!، ولا سيّما بعد أنْ تلاشت أحلامهم المريضة بسقوط سيّدهم، فشرعوا بضرب الناس على الطرف الآخر من المدرج بالحجارة والحصى، وذمّ وقدح الرموز الكردية، وكان قد سبقهم بعضٌ منهم في التجوال في شوارع قامشلي على المركبات وهم يردّدون الشعارات المسيئة للكرد ويتوعدونهم بمستقبلٍ مظلمٍ، ومع اشتداد القذف والضرب يضطرّ الفريق الآخر (الجهاد) وجمهوره إلى الدفاع عن نفسه؛ لتتحوّل مباراة كرة القدم إلى مباراةٍ للضرب والشتم، وتسارع بعض قنوات الإعلام المشبوه في إكمال فصول الفتنة وبثّ أنباءٍ كاذبةٍ عن قتالٍ وعراكٍ في ملعب قامشلي، وعن مؤامرةٍ يقوم بها الكرد من الداخل والخارج غايتها زعزعة الأمن في البلاد، ليأتي ردّ الجهات الأمنية قاسياً، وذلك بإطلاق الرصاص الحي نحو الصدور العارية وسقوط قتلى وجرحى بين جمهور الجهاد المصدوم..
ويأتي اليوم التالي الذي شهد تشييع الشهداء وصيحات الغضب من المشيعين كردّ فعلٍ طبيعيٍّ على قتل الناس الأبرياء؛ ليبدأ إطلاق النار من جديدٌ وسقوط عددٍ آخر بين شهيدٍ وجريحٍ ليكون الرّدّ الكرديّ أسرع، وتنطلق انتفاضةٌ عارمةٌ على امتداد الخارطة الكردية وأماكن التواجد الكرديّ على طول البلاد وعرضها، ليدفع النظام بكلّ آلته وقوّته الأمنية والعسكرية ضدّ الكرد المنتفضين، ويتمّ اعتقال الكرد على الهوية بالمئات وفي كلّ المناطق السورية، وتتحوّل المراكز الأمنية إلى آلاتٍ تدير كلّ صنوف التعذيب الجسديّ والنفسيّ ليؤدّي ذلك إلى استشهاد العشرات تحت آلة التعذيب الأمنيّ التي لا تهدأ..
تستيقظ الحركة الكردية من سباتها الطويل على هذا الأمر الجلل، تلملم شعثها؛ لتُجاري هذا الحدث الأليم والغادر في خاصرة الكرد، مرّةً أخرى يتّحد الكرد- الكرد الذين لا يتّحدون إلا في المصائب الكبرى تحت عباءة مجموع الأحزاب الكردية-؛ لمواكبة الانتفاضة ودرأ المخاطر والبحث عن الحلول وسدّ الطريق أمام المؤامرة الخبيثة والوقوف بحزمٍ في وجه الساعين للاصطياد في الماء العكر، ليقدّم الكرد السّوريّون مرةً أخرى في انتفاضتهم المزيد من الشهداء قرباناً للإقليم الفيدراليّ في كردستان العراق، وأمام هول الحدث واكتظاظ السجون والمراكز الأمنية بالناس وتحول العديد من المدارس والأماكن العامة إلى ثكناتٍ للتوقيف والاعتقال، كان لا بدّ من تشكيل لجنةٍ قانونيةٍ تواكب صيغة مجموع الأحزاب الكردية؛ للدفاع عن معتقلي الانتفاضة بكلّ الوسائل القانونية سعياً وراء إطلاق سراحهم، وذلك للتخفيف من معاناتهم ومعاناة ذويهم قدر المستطاع.
تشكّلت اللجنة في نيسان 2004م، وحين وقع عليّ الاختيار لأكون عضواً في اللجنة المذكورة تغلّبتُ على تردّدي ومخاوفي بسرعةٍ في القبول، تلك المخاوف التي راودتني كانت تتمثّل في عمري الزمنيّ والمهنيّ الذي قد لا يؤهّلني بجدارةٍ للقيام بمهمة الدفاع عن هؤلاء الذين حوّلتهم السجون والمعتقلات إلى أبطالٍ ورموزٍ لانتفاضة 2004م، وللدفاع عن قضيةٍ عادلةٍ سرعان ما اخترت القبول التزاماً بالمبدأ الذي علّمني إيّاه معلّمي الأول (أبي)- أبي الذي وضعني على هذا الطريق الشائك منذ الصغر- المبدأ الذي يقول: إذا توازى لديكَ الخوف (أيّاً كان مصدره) مع الواجب في قضايا الكرد والشأن العام؛ فعليك دائماً تغليب الواجب على مخاوفكَ ومن دون تردّدٍ.
بدأت اللجنة عملها- بعد تشكيل هيكليّتها وانتخاب رئيسٍ لها- مع ممثّلي مجموع الأحزاب الكردية؛ للوقوف على آرائهم وتصوّراتهم حول مجمل الأوضاع التي يمرّ بها الشعب الكرديّ في سوريا، وتداعيات الانتفاضة العارمة والتنسيق معهم على الدوام، حيث تمّ الاتفاق على تحديد موعدٍ للاجتماع الدوريّ للجنة مرّةً كلّ أسبوعٍ وكلّما دعت الحاجة والضّرورة.
في البداية كان من الضروريّ التواصل مع العشرات من الإخوة المحامين، الذين أبدوا استعدادهم للدفاع عن المعتقلين ومساعدة اللجنة في عملها، وكان للعديد منهم الفضل والسبق في العمل ومتابعة شؤون المعتقلين والدفاع عنهم ضمن المجال المتاح حتى قبل أنْ تتشكّل اللجنة، وبالفعل تمّ تنظيم جداول بأسماء المحامين المتطوعين، وذلك لتقسيم العمل فيما بينهم وتوزيع أسمائهم على الوكالات، ومن ثمّ تمّ توثيق أسماء المعتقلين، وأعدادهم، وأماكن تواجدهم، وتنظيم الوكالات لكلّ من تمّت إحالتهم إلى المحاكم، وتصوير ملفاتهم، والعمل من أجل الحصول على الموافقة اللازمة لزيارتهم؛ للوقوف على أوضاعهم ومطالبهم، وذلك لأنّ الدوائر الأمنية والجهات الجنائية كانت تحرم المعتقلين من فرص توكيل محامين للدفاع عنهم، أو الكشف عن أماكن تواجدهم؛ لذلك تمّ تكليف عددٍ من أعضاء اللجنة بهذا العمل والسفر نحو مدينة الحسكة، والعاصمة دمشق، وحلب، التي شكّل المحامون فيها وبالتوازي مع عمل لجنتنا وبالتنسيق معنا لجنةً خاصةً بهم للدفاع عن معتقلي حلب المدينة وأطرافها، وبالفعل كان يتمّ الاتفاق على تكليف عددٍ من محامي اللجنة وعددٍ من المحامين المتطوّعين كلّ أسبوعٍ للسفر لأجل هذه المهام، التي كانت تتمّ بجدارةٍ، وشيئاً فشيئاً تمّ تنظيم وكالاتٍ لكلّ المعتقلين، وتنظيم جداول بأسمائهم والمحاكم التي أحيلوا إليها، والتهم الموجّهة إليهم، والتي كانت تتراوح بين تجمّعات وتظاهرات الشغب، مروراً بالانضمام إلى جمعياتٍ سياسيةٍ غايتها اقتطاع جزءٍ من سوريا وضمّها إلى دولةٍ أجنبيةٍ، وليس انتهاءً بهدر وحرق ممتلكات المال العام، والتي كانت تتراوح العقوبات فيها بين السجن لستة أشهر وصولاً إلى الأشغال الشّاقّة المؤبّدة.
تمرّ أيامٌ عصيبةٌ من القهر والظلم والترهيب على أبناء الشعب الكرديّ في سوريا، تتمادى فيها الأجهزة الأمنية في إذلال الناس والمعتقلين، هي تبحث عن شيءٍ مفقودٍ وصوت العقل غائبٌ، فالذي يستبدّ ويعمل في الظلام يظلّ مهووساً وتنتابه نوبات قلقٍ باستمرارٍ، ويظنّ دائماً بأنّ هناك ما يُحاك ضدّه في الظلام، ومع مرور الأيام ويأس الأجهزة الأمنية من الوصول إلى نتيجةٍ، ومع تدخّل الخيّرين والاستماع إلى صوت العقل والمنطق، بدأت السلطات تدرك بأنّ فتنةً خبيثةً كانت تُحاك في الظلام؛ غايتها ضرب مكوّنات البلاد بعضها بعضاً، وأنّ كلّ ما قيل عن مؤامرةٍ كرديةٍ وأيدٍ خارجيةٍ، إنّما كان جزءًا من فصول تلك المؤامرة النتنة، وأنّ ردّ الفعل الكرديّ كان نتيجةً طبيعيةً وانتفاضةً على الظلم والاستبداد والقهر الذي طالهم لعقود، والرصاص الحيّ الذي أُطلق على أناسٍ انتفضوا بصورةٍ سلميةٍ ضدّ الظلم والطغيان..
يمضي الزمن.. وشيئاً فشيئاً تتوضّح ملامح المؤامرة، ويصبح النظام على قناعةٍ تامةٍ بأنّ المؤامرة كانت على الكرد وعلى الدولة السُّوريّة برمّتها، إذْ إنّ أصحاب الفكر الظلاميّ والشوفينيّ لن يشتفي غليلهم إلا عند رؤية كلّ الدول، وعلى رأسها سورية، منهارةً بعد أنْ تهاوى “اللات” الذي كانوا يعبدونه في بغداد، بدأتِ الأمور تتجه نحو التهدئة، عاد العشرات من المعتقلين إلى بيوتهم، وتمّ نقل ملفّات بقية الموقوفين، بحجّة الحفاظ على الأمن والنظام العام، إلى قاضي الفرد العسكريّ الثالث بدمشق؛ للتحقيق في الملفات، واللجنة القانونية تتابع هذه الملفّات عن كثبٍ عبر زيارات أعضائها إلى دمشق العاصمة؛ لمتابعة الدعاوى، وزيارة السجناء الذين أحيلوا بعد سجن (صيدنايا) إلى سجن (عدرا المركزي)، مع اجتماعات دوريةٍ للجنة مع مجموع الأحزاب الكردية وذوي المعتقلين؛ للاطمئنان عن أوضاع أبنائهم، ومعنوياتهم العالية، ومحاولة تلبية كلّ طلباتهم، وإبعادهم عن السماسرة الذين حاولوا مراراً استغلال ملفّ المعتقلين، وابتزاز ذويهم بوعودٍ واهيةٍ لإطلاق سراحهم، وبعد انتهاء الاستجواب لدى قاضي التحقيق الثالث بدمشق، تمّتْ إحالة كافّة الملفّات إلى المحكمة العسكرية في دمشق؛ ليأخذ ملفّ كلّ مدينةٍ رقماً خاصّاً به، ومع تزايد أعباء العمل تصل اللجنة إلى قرارٍ بتسليم ملفّ كلّ مدينةٍ إلى محامين من ذات المدينة؛ وذلك لتوزيع العمل ومشاركة أكبر عددٍ من المحامين في الدفاع عن الموقوفين..
في الجلسة الأولى للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية في دمشق، تتمّ دعوتنا، قبل الجلسة، للقاء مدير إدارة القضاء العسكريّ اللواء نبيل سكوتي، الذي رحّب بنا أجمل ترحيبٍ وأثنى على عملنا بقوله: إنّ هذا البلد بخيرٍ ما دام هناك العشرات من المحامين يقطعون كلّ هذه المسافات للدفاع عن أبناء بلدهم وجلدتهم..، وأعرب عن شكره لنا ولحضورنا الدوريّ إلى دمشق للدفاع، وتعهّد بأنّ العدالة لا بدّ أنْ تأخذ مجراها، وأنّه لن يرضى بأيّ خللٍ أو تدخّلٍ في عمل القضاء، وأنّه سيتابع عمل المحكمة عن كثبٍ في قضايا موكّلينا وفي كلّ الجلسات.. وشيئاً فشيئاً تتجه الأوضاع نحو التهدئة أكثر، ويصدر مرسومٌ للعفو العام في الشهر السابع من العام 2004م؛ ليطلق سراح العشرات من موكّلينا ممن اقتصرت اتهاماتهم بتظاهرات وتجمعات الشغب وذمّ وقدح رئيس الجمهورية وفق مرسوم العفو الصادر، لتنحصر ملفّات المعتقلين بملفٍّ لمعتقلي كلّ مدينةٍ أمام المحكمة العسكرية في دمشق، وملفّ معتقلي دمشق (زورافا) أمام محكمة أمن الدولة العليا، وملفّ الأحداث الجانحين أمام محكمة الأحداث الجانحين في الحسكة، وملفٍّ مختلطٍ من كلّ المحافظات والمدن أمام المحكمة العسكرية، وبعض الملفّات الفردية أمام القضاء العسكريّ ومحكمة أمن الدولة، ونظلّ نحن في اللجنة القانونية نتابع الأوضاع عن قربٍ.. نجتمع مع كلّ طارئٍ، لا نقطع الزيارات عن الموكلين، ونطالب مدير السجن المركزي في عدرا بتلبية طلبات موكّلينا، ننقل احتياجاتهم إلى ذويهم ونقوم بتأمين الزيارات لمن يريد.. يتمّ تكليف أحدنا بإعداد مذكّرات الدفاع، وتقضي اللجنة عدّة جلساتٍ في مناقشتها إلى أنْ يتمّ إقرارها، وتتمّ تسمية عددٍ من أعضاء اللجنة ومعهم عددٌ من محامي كلّ مدينة من المتطوّعين للسفر إلى دمشق؛ لحضور الجلسات وزيارة الموكِّلين في السجن، وتمضي الأيام وتتكشّف خيوط المؤامرة ويصرّح رئيس الجمهورية وعبر قناة الجزيرة الفضائية بأنّ الكرد مكوّنٌ أساسيٌّ من النسيج الوطنيّ في سوريا، وأنّ كلّ ما جرى هو شأنٌ داخليٌّ يتكفّل السُّوريّون بمعالجته؛ ليقطع الطريق أمام مثيري الفتنة.. تتجه الأوضاع أكثر نحو الانفراج، يستدعينا مدير الإدارة مرّةً أخرى للقاءٍ يثني فيه مجدّداً على جهودنا قائلاً: إنّ من طبيعة المجتمعات وجود المشاكل فيها وهذا لا يعيب البشرية، وإنّما ما يعيبها هو عدم وجود أناسٍ لحلِّ هذه المشاكل، وبأنّنا وكسُوريّين يجب أنْ نكون يداً واحدةً لوضع حلٍّ نهائيٍّ لهذه المشكلة، خرجنا من لقائه متفائلين وعلمنا أنّ من وراء حديثه أمرٌ ما، وأنّه يطالبنا بشكلٍ غير مباشرٍ بالقيام بما يكون من شأنه وضع حدٍّ وحلٍّ نهائيٍّ لهذه القضية..
عقدنا لقاءً مع ممثّلي الحركة الكردية؛ لننقل إليهم تفاصيل اللقاء، ومناقشة ما يستدعيه الحال، وبعد أخذٍ وردٍّ ونقاشٍ حامٍ تمّ الاتفاق على أنْ تتقدّم اللجنة بمذكرةٍ إلى السيد رئيس الجمهورية نطلب منه من خلالها ممارسة صلاحياته الدستورية في حفظ هذه الدعاوى، وإلغاء القرارات الصادرة عن المحاكم بحقّ معتقلي انتفاضة 2004م، وبعد مناقشاتٍ دامت عدة أيامٍ تمّ إقرار المذكّرة، التي تضمّنت الحديث عن الدور الحضاريّ للكرد قديماً وحديثاً في المنطقة، وعلى وجه الخصوص دورهم الرائد في بناء سوريا، وأنّ الحكومات المتعاقبة نسفت كلّ أسس الشراكة الوطنية، وتنكّرت للكرد وحقوقهم، وأنّ الانتفاضة التي تلت فتنة ملعب قامشلي كانت ردّ فعلٍ طبيعيٍّ على الاحتقان والمظالم التي طالت الشعب الكرديّ في سوريا، وأنّ تلك الفتنة كانت ترمي إلى الإيقاع بين الكرد والدولة، وأنّ لرئيس الجمهورية بمقتضى صلاحياته الدستورية الحقّ في حفظ الدعاوى وإلغاء الأحكام الصادرة عن القضاء العسكريّ ومحكمة أمن الدولة، ليتمّ إيصال الرسالة وبأيدٍ أمينة إلى رئاسة الجمهورية، ويصار إلى إصدار القرار رقم (9/1229) بتاريخ 30/3/2005م، والذي نصّ على حفظ وإلغاء جميع القرارات الصادرة على خلفية أحداث قامشلي وفق ما ورد في مذكّرتنا من طلباتٍ، وبالفعل تمّ الإفراج عن جميع الموقوفين والمحكومين؛ ليعودوا إلى أهلهم وسط مشاعر الفرح والسعادة، وتنصب خيم الاستقبال لهم في كلّ بلدةٍ ومدينةٍ، أولئك الذين اعتُقل معظمهم فقط كونهم من القومية الكردية، ومن أماكن تواجد عملهم، وجامعاتهم، ومعظمهم شبابٌ غضٌّ في مقتبل العمر تحوّلوا في السجن إلى مناضلين أبطالٍ ينافحون عن قضيّتهم العادلة، ولم تنل من عزيمتهم كلّ سياط الجلاد، وأيام السجن العصيبة.. وقرّرت اللجنة تقديم التهنئة في خيم الفرح التي نُصبت لهم، وكانت الأيام والزيارات المتكرّرة لأعضاء اللجنة وبقية الإخوة المحامين لهم في السجن وأماكن التوقيف كفيلةً بأنْ توجد بيننا نحن المحامين وهؤلاء الأبطال وحدة حالٍ في المعاناة والأمل بغدٍ أفضل، غد تسود فيه قيم العدالة والمساواة في بلدٍ يكفل دستوره كلّ الحقوق القومية للشعب الكرديّ، بلدٍ ينتفي فيه الظلم والاستبداد، ووحدة الحال جعلت من هؤلاء الإخوة وذويهم يستقبلوننا بأجمل آيات الترحيب ويعلنون لكلّ المتواجدين بأنّ هؤلاء كانوا شركاءً لنا في معاناتنا، وإنْ لم يكونوا مثلنا خلف القضبان، وظلّوا إضافةً إلى كونهم محامين للدفاع عنّا ظلّوا رسلاً لنقل احتياجاتنا ومطالبنا للحركة السياسية وذوينا على الدوام.. وبذلك طوي الملفّ وبقينا على العهد معهم في العمل لأجل غدٍ أفضل والحضور كلّما دعت الحاجة.
وفي النهاية، وكوني أصغر عضوٍ في اللجنة، فإنّ عملي المتواضع لا يوازي صرخة ألمٍ لطفلٍ تحت سياط الجلاد في تلك الأيام القاسية، وكوني أصغر عضوٍ في اللجنة القانونية، فإنّ عملي لا يقارن بسكرةٍ واحدةٍ من سكرات الموت التي تنهّدها الشهيد (فرهاد) وبقية رفاقه الشهداء، حين بصقوا في وجه جلاديهم حين طُلِب منهم أنْ يبصقوا على صور رموز الكرد وقادتهم ومناضليهم.
===========
* محام وكاتب وناشط حقوقي كردي