كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة الخامسة عشرة (عبدالله إمام*)

–  في 12 آذار 2004م، كانت فتنة حاكها النظام في غُرَفه المظلمة، وأشعلها عندما جلب المئات من شبّيحته من محافظة ديرالزور إلى مدينة قامشلي؛ استفزازاً للجمهور الكُرديّ؛ ليتظاهروا، رافعين صور الديكتاتور صدام حسين ويشتمون زعماء الكُرد.. وسمحتْ لهم نقطة التفتيش بإدخال أسلحتهم البيضاء والسوداء معهم إلى داخل الملعب، الذي كان ينتظر مباراةً بين فريقي الجهاد والفتوة.

بعد بدء المباراة واعتداء المسلحين على الجمهور الأعزل لنادي الجهاد، أعلنت الإذاعة من دمشق بأنّ ثلاثة أطفالٍ قتلوا في الملعب- طبعاً كان الخبر كاذباً- وهذا ما أدّى إلى توجّه أهالي قامشلي إلى الملعب؛ للاطمئنان عن أبنائهم، كما هاجم الغزاة المسلحون جمهورَ قامشلي الأعزل داخل الملعب، فاختلط الاشتباك داخل الملعب بالتحشّد خارجه، وعندها كان محافظ الحسكة آنذاك محمد سليم كبول يأمر القوات الأمنية بإطلاق الرصاص الحيّ على الجموع، ما أدّى إلى استشهاد عددٍ من الشباب واشتعال الشارع الكرديّ.

–  في 13 آذار كانت الانتفاضة عندما أرادت الجماهير تشييع جثامين الشباب الذين فقدوا أرواحهم، فقامت القوات الأمنية بإطلاق النار على المشيّعين، وعلى أثر ذلك فقَدَ عددٌ آخر من الشباب أرواحهم، فكانت شرارة الانتفاضة التي امتدّت إلى بقية مدن ونواحي محافظة الحسكة، وانكفأت القوات الأمنية داخل مقرّاتها فاقدةً السيطرة على تلك المناطق.

–  في نفس اليوم كان طلاب جامعة دمشق يتضامنون مع أهلهم، واعتصموا بالمئات في ساحات الجامعة فاعتُقل عددٌ منهم، وأصيب عددٌ آخر برصاص قوات النظام.

–  في 14 آذار وصلت شعلة الانتفاضة إلى كوباني التي أعلنت تضامنها مع قامشلي، فأغلقت جميع محالّها، وانطلق شبابها في مظاهرةٍ حاشدةٍ، شارك فيها الآلاف، حيث انطلقت من أمام المشفى وجابت شوارع المدينة، وأصيب فيها بعض الشباب بالرصاص الحي من قبل قوات النظام التي فقدت السيطرة على المدينة وانكفأت داخل مقرّاتها.

–  في تلك الفترة كانت الأحياء الكُردية في مدينة دمشق (حي الكرد وحي زورافا) تتظاهر بالآلاف وكان النظام يعتقل المئات من أبناء الحيّين.

–  كذلك الأمر في جامعة حلب، التي هبّ الطلبة الكُرد فيها للتظاهر والتضامن مع أهلهم والتنديد بجرائم النظام.

–  في 16 آذار وأثناء وقوف الناس صمتاً حداداً بمناسبة مجزرة حلبجة، أقدمت قوات النظام على إطلاق الرصاص الحي في حي الأشرفية بحلب، ففَقَدَ شباب ونساء أرواحهم، ومنها امتدّت الانتفاضة إلى منطقة عفرين التي خرجت بدورها عن سيطرة النظام.

–  حاول النظام من خلال شخص الضابط الأمنيّ محمد منصورة (مسؤول الملفّ الكُرديّ) إقناع بعض زعماء الأحزاب الكُردية المقرّبين منه؛ لتهدئة الشارع بعد أنْ خرجت معظم المدن الكُردية عن سيطرة النظام، وحاول بعض هؤلاء الزعماء تنفيذ الأوامر، لكنّ الشارع لم يرضخ لإملاءاتهم.

–  قام اللواء هشام بختيار رئيس مكتب الأمن القومي في حزب البعث باستدعاء عددٍ من زعماء المعارضة (حسن عبدالعظيم، وهيثم المالح، وآخرين..) وكلّفهم بالذهاب إلى قامشلي وإقناع الأحزاب الكُردية بإنهاء الانتفاضة، فنفّذوا المهمة بإتقانٍ، وفي جلسة محاكمة المحامي هيثم المالح أمام المحكمة العسكرية بدمشق في 8 نيسان 2010م كنا- كهيئة دفاع- حاضرين، حيث طلب المالح من القاضي أنْ تكافئه الدولة لا أنْ تعاقبه.. وعندما سأله القاضي: (على شو بدنا نكافأك؟، أجاب المالح: «في 2004 تمّ تكليفنا من قبل مكتب الأمن القوميّ بالذهاب إلى قامشلي والتنسيق مع الأحزاب الكُردية؛ لإنهاء التمرّد، فذهبنا أنا وحسن عبدالعظيم وآخرون ونفّذنا المهمة بكلّ نجاحٍ».

–  قام محافظ الحسكة بتكليف الشبيحة من أهالي الحسكة لمساعدة النظام في قمع الحراك الكرديّ، فكان ذلك.

–  إقليمياً كانت الجارة الشمالية تركيا متوجّسةً من انتقال الشرارة إلى مدنها القريبة، كما كانت خائفةً على مصير حليفها المدلل حينذاك بشار الأسد، كما قام الرئيس المصري حسني مبارك بزيارة دمشق وإقناع بشار الأسد بعدم التصعيد والاستفزاز واستخدام لهجةٍ مرنةٍ قد تمتصّ غضب الشارع، فكان تصريح الأسد في مقابلةٍ له على قناة الجزيرة القطرية ملفتاً وغير مسبوقٍ، حيث تحدّث بلهجةٍ مرنةٍ ونفى وجود تدخّلٍ خارجيٍ في ما حدث، بل برّره بأنّه كان نتيجة «انفعال»، وقال بأنّ: «القومية الكُردية جزءٌ أساسيٌّ من النسيج الوطني السّوريّ ومن تاريخ سوريا» ووعد بحلٍّ قريبٍ لقضية المجرّدين من الجنسية، إلى درجة أنّ بعض الأحزاب الكُردية قامت بجمع التواقيع على رسالةٍ موجّهةٍ للأسد، تتضمن الثناء على موقفه وتقييم «ذلك التصريح عالياً، لأنّه خلقَ جواً واسعاً من الارتياح لدى الشعب الكُرديّ عامةً، ووضعَ حداً لسلوك القوى الشوفينية، وخلق أجواء الثقة التي تساهم في تعزيز الوحدة الوطنية» (من البلاغ الختامي الصادر عن اجتماع المجلس العام للتحالف الديمقراطيّ الكُرديّ في سوريا، أوائل أيّار 2004م).

–  دولياً بقيت الدول العظمى متفرّجةً مع بعض التصريحات الخجولة، وأرادت الولايات المتحدة الأمريكية استغلال الموقف؛ لتخفيف تدخّل النظام السّوريّ في الوضع العراقيّ كما حصلت من بشار الأسد على مساعداتٍ استخباراتية.

– وهكذا حوصرت الانتفاضة بين النظام وبعض الزعماء الكُرد والمعارضة المتخاذلين والشبيحة المحلّيّين.. ولم تجد نصيراً، لا من السّوريّين الآخرين من الشركاء المفترضين في الوطن، ولا من أيّة جهةٍ دوليةٍ أو إقليميةٍ أخرى، فتوقّفت بعد مقتل العشرات واعتقال الآلاف، واستطاع النظام استعادة بسط سيطرته على مناطق كُردستان سوريا.

–  بقيت تداعيات الانتفاضة تتكرّر في كلّ آذار، حيث كان الوقوف حداداً على أرواح ضحاياها يستجلب اعتقالاتٍ واستجواباتٍ أمنيةً، كما كانت احتفالات نوروز اللاحقة تستذكر الحدث.

–  أُطلِقَتْ على انتفاضة 2004م عدةُ تسمياتٍ، ولم تكن معظمها بريئةً، ومن تلك التسميات: فتنة، حدث، أحداث، هبّة،… لكنْ وبحكم أنّها لم تقتصر على مدينةٍ أو منطقةٍ بعينها، فلم تكن انتفاضة قامشلي أو كوباني أو عفرين، بل كانت جديرةً بأنْ تحمل اسماً يناسب مقاسَها، فكانت «الانتفاضة الكُردية في سوريا» أو «انتفاضة كُردستان سوريا».

– بقيت ارتدادات الحدث/ الانتفاضة تظهر بين الحين والآخر، وخاصةً في أشهر آذار. ففي 20 آذار 2008م فقَد عددٌ من الشباب حياتهم برصاص قوات النظام، حين كانوا يحتفلون مستقبلين عيد نوروز، وكذلك في 21 آذار 2009م كان الكُرد في مدينة الرقة على موعدٍ مع الرصاص الحيّ لقوات النظام حين كانوا يحتفلون خارج المدينة بعيد نوروز، وكانت النتيجة مقتل وإصابة العديد واعتقال العشرات.

–  وحيث إنّ الصرخة لا تنتهي بإغلاق فم صاحبها، فقد ثبت بعد سبع سنواتٍ أنّ تلك الانتفاضة لم تمتْ، بل مازال لهيبها ينتظر نفخةً من جديدٍ عند توافر الظرف المساعد على الاشتعال.. وهكذا استأنفت مسيرتها في آذار 2011م في سياق انتفاضةٍ أشمل ما تزال تبحث عن شاطئٍ ترسو عليه.

 

* محام وكاتب وقيادي

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي أود أن أوضح بداية أنني لست مختصًا في القانون، وقراءتي لهذا الموضوع ربما تندرج ضمن الإطار السياسي النقدي. بعد استعراض الإعلان الدستوري السوري المؤقت، الذي تم تبنيه عقب سقوط نظام بشار الأسد، يمكن ملاحظة عدد من النقاط التي قد تسهم في ترسيخ حكم ديكتاتوري جديد، حتى وإن كانت النية الظاهرة هي بناء دولة ديمقراطية قائمة على…

المحامي عماد الدين شيخ حسن   نشر مجلس سوريا الديموقراطية ( مسد) عبر صفحته الرسمية وموقعه على منصة ” X” مقالاً لعبد القادر موحد، عضو المجلس التنفيذي في مجلس سوريا الديمقراطية، بعنوان: ( المصطلحات القومية في الفكر الاوجلاني من ” الشعب الكردي” الى ” المجتمع الكردي” و” المجتمع الاصيل”)، وسرعان ما جرى حذف المقال وازالته من الموقعين. وبالنسبة لي شخصيّاً،…

صلاح بدرالدين   بحكم تواجدنا القسري في لبنان في سنوات نظام البعث وحكم الدكتاتور حافظ الأسد ، تعرفنا عن كثب على قادة الحركة الوطنية اللبنانية وفي المقدمة الشهيد كمال جنبلاط ، الذين استقبلونا برحابة الصدر ، ولاننا كنا مستهدفين من أجهزة ذلك النظام الشوفيني المجرم ، فقد قدم لنا الرفاق اللبنانييون ، والأصدقاء في منظمة التحرير الفلسطينية ، كل أسباب…

قبل أحداث الملعب البلدي (الدَّامية) في قامشلو (يوم الجمعة 12 آذار عام 2004م)، والتي أعقبتها مُباشرةً انتفاضةُ كرد قامشلو.. في ذلك الوقت كنتُ مُقيماً في بلدة نصيبين التركية الجارة الملاصقة لقامشلو، أمارس عملي كطبيبٍ أسنان، وكذلك كنتُ أكتب المقالات تحت اسمٍ مستعارٍ (بافي رامان)، والقلَّة من الأصدقاء كانوا يعرفونني بذلك الاسم المستعار، الذي ظلّ طي الكتمان، فقد كنتُ أبعثُ مقالاتي…