في مهبّ الفراغ: انسحاب أمريكي ومصير مجهول لشرق الفرات

ماهين شيخاني

في عالم تُرسم فيه الخرائط بدم الشعوب، لا تأتي التحوّلات العسكرية منفصلة عن الثمن الإنساني والسياسي. انسحاب نصف القوات الأمريكية من شرق الفرات ليس مجرد خطوة تكتيكية ضمن سياسة إعادة التموضع، بل مؤشر على مرحلة غامضة، قد تكون أكثر خطراً مما تبدو عليه.

القرار الأميركي، الذي لم يُعلن بوضوح بل تسرب بهدوء كأنّه أمر واقع، يفتح الباب أمام سيناريوهات قلقة، ويضع حلفاء الأمس، وعلى رأسهم الشعب الكردي، أمام معادلات جديدة لا تحمل كثيراً من الطمأنينة.

خلفيات الانسحاب: الواقعية المسمومة

منذ تدخلها العسكري في سوريا، لم تتحرّك واشنطن بدافع إنساني، بل وفق حسابات دقيقة: محاربة الإرهاب، موازنة النفوذ الروسي والإيراني، وتأمين المصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط. لكن تلك المصالح ليست ثابتة، بل تخضع لموجات السياسة الداخلية الأمريكية وتقلبات الإدارات المتعاقبة.

اليوم، ومع تصاعد النزعات الانعزالية في السياسة الأمريكية، يبدو أن شرق الفرات لم يعد أولوية. فالمشهد الدولي تغيّر، والتكلفة ارتفعت، والحلفاء باتوا أوراقاً يمكن التضحية بها إذا ما اقتضت الحاجة.

شرق الفرات: أرض الفراغ المقبل

الانسحاب الأمريكي يفتح فراغاً جيوسياسياً مغرياً لقوى متربصة. تركيا تتهيّأ للتوغل مجدداً تحت شعار “محاربة الإرهاب”، وروسيا تسعى لتوسيع قبضتها عبر تفاهمات جديدة مع النظام السوري، فيما تواصل إيران تثبيت أقدامها بهدوء في مناطق النفوذ الرمادي.

هذا الفراغ لا يعني فقط تغيّر السيطرة العسكرية، بل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة وتوازنها الإثني والسياسي، وسط احتمالات لموجات نزوح جديدة، وعودة محتملة لمظاهر الفوضى والعنف.

الكرد في قلب العاصفة: ذاكرة لا تنسى

بالنسبة للشعب الكردي، فإن هذا المشهد ليس جديداً. من سايكس-بيكو إلى خيانات القرن العشرين، ومن كركوك إلى عفرين، تتكرّر المأساة ذاتها: الثقة التي تُمنح، ثم تُكسر؛ والدم الذي يُراق، ثم يُنسى.

لقد خاض الكرد معركة وجود ضد داعش، وقدموا آلاف الشهداء، وساهموا في صنع استقرار هشّ، كانوا يأملون أن يكون نواة لحل سياسي مستدام. لكن، كما في كل مرة، بدا أن العالم لا يملك ذاكرة طويلة، أو أنه لا يريد التذكّر أصلاً.

في هذا السياق، جاءت كلمة الرئيس مسعود بارزاني في معرض الكتاب بأربيل لتحمل تحذيراً واضحاً:

“المنطقة مقبلة على مرحلة خطرة، وعلينا أن نكون في غاية الحذر.”

إنه ليس مجرّد تصريح، بل قراءة دقيقة للمآلات القادمة، المبنية على تراكم تجربة نادرة في فهم الواقع الكردي والإقليمي.

ما العمل؟ نحو مشروع لا يُباع

رغم ضبابية المشهد، لا يزال أمام الكرد خيارات، وإن كانت محدودة. المطلوب اليوم ليس فقط مقاومة سياسية أو عسكرية، بل بناء مشروع وطني واقعي، قادر على الصمود في وجه التقلّبات، وعلى إدارة التوازنات بوعي ومسؤولية.

الحذر الذي دعا إليه بارزاني، يجب أن يتحول إلى بوصلة استراتيجية، تُعيد ترتيب الأولويات، وتوحّد الصفوف، وتمنع تكرار المأساة.

ففي زمن تتبدّل فيه التحالفات كأوراق الخريف، لا ينجو إلا من يحسن قراءة الريح، ويثبت جذوره عميقاً في الأرض.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…