عودة الخطر إلى إيزيديي شنكال: مأساة متجددة أمام عجز دولي وصمت عام

إبراهيم اليوسف
تطفو اليوم مجددا إلى السطح معاناة الكرد الإيزيديين في شنكال، معيدة إلى الأذهان المشهد المأساوي الذي خلفه اجتياح داعش في عام 2014. إذ ما تزال آثار ذلك الدمار ماثلة، وما زال الجرح غائراً في نفوس أولئك الذين قاوموا الإرهاب، وبذلوا كل غالٍ ونفيس في سبيل صون وجودهم وهويتهم، ليأتي الزمن اليوم بما لا يتصوره عقل: عملية ثأرية تُدار على مرأى من الجميع، وتستهدف الوجوه ذاتها التي قاتلت الدواعش، ودفعت ثمن الكرامة والحرية.

فما جرى في شنكال ليس مجرد حوادث متفرقة؛ هو حالة ممنهجة لإعادة تكريس الحصار على الكرد الإيزيديين تحت غطاء الدولة، وبأدواتها المختلفة. وبحسب الأنباء الواردة، فإن حكومة بغداد تسعى لاعتقال العشرات من الإيزيديين المقاومين، ممن شقوا طريقهم في وجه الظلم، وكانوا حائط الصد في وجه الإرهاب. ثمة قائمة من سبعين مطلوباً، بعضهم تشتت بين أوروبا وأماكن أخرى، وآخرون لا يزالون في أرض شنكال، ليواجهوا الآن مصيراً قاتماً بعدما قُبض على بعضهم، كما حدث في قرية “كوهبل Guhbel”، حيث تسعى هذه العمليات للإجهاز على أي صوت رفض الهزيمة، وأبى أن ينكسر.

الاستهداف الانتقائي وحقيقة الثأر المخفية

تتجلى أمامنا صورة مشوهة لعدالة باتت تفتقد إلى منطق الحق، حيث يُستهدف  بعض أبناء شنكال لأنهم كانوا مقاومين، لأنهم قاتلوا داعش بمتانة، ولأنهم لم يرضخوا لنهج الاستسلام أمام الوحشية والإرهاب. هؤلاء الذين صنعوا  خط الدفاع الأول مع البيشمركة في وجه التطرف، باتوا اليوم ملاحقين بذرائع عدة، وكأن الدولة لا تكافئهم إلا بنزع حقوقهم وملاحقة أحلامهم.

إنَّ موضوع عودة العنف إلى شنكال لا يمكن اختزاله بمسألة استقرار أمني زائف؛ فهو أبعد من ذلك، هو رغبة في تصفية حسابات، وفي إعادة فرض السيطرة على مجتمع قاوم وأثبت قوته، وذلك عبر استهداف القيادات التي رفضت الخضوع. هذا التوجه الثأري يعيد إنتاج المأساة، لكنه هذه المرة بأدوات رسمية قد تبدو غير مباشرة، تخفي نية مبيتة للقضاء على روح المقاومة في شنكال، روح جعلت الكرد الإيزيديين في موقع مختلف عن أي وقت مضى.

 

المسؤولية الدولية وضياع الحقوق

اليوم، يتوجب على الجهات الدولية، وتحديداً تلك التي دعمت الحرب ضد داعش، أن تعي ما يحدث في شنكال. هؤلاء الذين جندوا الخطابات الرنانة ضد الإرهاب مطالبون الآن، وعلى نحو عاجل، بأن يسألوا أنفسهم عن مصير أولئك الذين دفعوا الثمن الأكبر في تلك الحرب، عن مآل القرى والمنازل التي لا تزال تحترق بنيران الثأر، وعن مآسي الأرامل والأيتام الذين يستمرون في نزيف الصمت والعزلة. ليس منطقياً أن تُترك شنكال اليوم وحدها أمام تلك السياسات العقابية، ولا أن يُترك الكرد الإيزيديون دون مظلة حامية، بعد أن قدموا تضحياتهم من أجل الإنسانية بأسرها.

إن المجتمع الدولي، والمنظمات التي ساهمت في محاربة الإرهاب، باتت معنية بأن تتخذ موقفاً حازماً. إذ ينبغي ألا يُسْمَح بملاحقة الإيزيديين بحجة استتباب الأمن؛ بل يجب الدفاع عن حقوقهم وحمايتهم من تلك السياسات الثأرية. فماذا سيبقى من شعارات الحرية والأمان إذا غُض النظر عن جرائم تحدث ضد أولئك الذين كانوا أول المدافعين عنها؟

 

خيار العودة إلى الإقليم: ملاذ الكرد الإيزيديين الحقيقي

على الرغم من مرارة الواقع، يدرك الإيزيديون اليوم أن ملاذهم الوحيد هو العودة إلى إقليم كردستان، حيث يجدون بين أبناء جلدتهم ما فقدوه في بغداد. ليس للكرد، بمختلف أطيافهم، سند حقيقي سوى إقليمهم الذي يجسد وحدتهم، بعيداً عن دعوات “الموصل أمنا وبغداد أبونا” التي أطلقها بعضهم في لحظة غدر، تخلت عن روح الانتماء إلى تبني سياسات تفرق ولا تجمع.

إن تلك الدعوات لا تحمل للإيزيديين أي طوق نجاة، بل قد تهدد وجودهم إذا ما انساقوا وراء أمان خادعة تُبنى على هشاشة الواقع. هذا لا ينفي أن بعضهم وفي لحظة ردة فعل أبدى رفضه لهويته الكردية، تحت تشجيع و ضغط قوى لاتريد وحدة الكرد، رافضين حقيقة أنهم جزء من الأمة الكردية، التي احتضنتهم وهم جزء منها، و غدا فرسانها درعا لهم  في وجه التهديدات والأخطار والمحن، وملاذاً آمناً في أوقات الشدائد.

إن الدماء التي سالت في شنكال تُنادي اليوم بالاستيقاظ من السبات، وصرخة الظلم لن تهدأ حتى يُلتفت إلى هذا الملف بجدية ، فالسماح لذوي قتلى داعش بالثأر من أبناء شنكال يعني منح الإرهاب فرصة جديدة ليقضي على المجتمع الكردي الإيزيدي، ويُهدر كل ما تحقق من تضحيات.

إن ما تبقى اليوم للكرد الإيزيديين في شنكال، هو احتضان أبناء إقليم كردستان لهم، فهذا الحصن الذي احتضن من قاوم وأبى الذلّ في الماضي، لن يكون إلا الحاضنة الحقيقية التي تصون كرامتهم وتؤمن مستقبلهم، بعكس تلك الأصوات التي ادعت الولاء لغير كردستان. على المجتمع الكردي الإيزيدي أن يتشبث بوحدته وأن يحذر من الانجراف وراء دعاوى الشقاق والتفرقة، فالإقليم هو بيتهم الأكبر، وهو من يقف معهم، في حين لن يجدوا من بغداد سوى الجفاء والصمت على وجوه الظلم القديمة التي تريد إعادة فرض سطوتها اليوم.

 

9-11-24

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…

صلاح بدرالدين نشر في وسائل التواصل الاجتماعي بالعاشر من الشهر الجاري ( نداء عاجلا ) موجها الى الرئيس الأمريكي المنتخب – دونالد ترامب – وادارته ، يرجو ويتمنى الإبقاء على عديد القوات الامريكية في – شمال شرق سوريا – وعدم الاقدام على سحبها ، وحتى الان يبدو الامر عاديا ، ولكن الغريب والعجيب هو اقتصار الموقعين على النداء على منظمات…

عبدالرحمن كلو المشروع الذي طرحه دولت بهجلي بخصوص حل سياسي مقابل إطلاق سراح أوجلان، جاء بصيغته العمومية المختصرة كتصريح إعلامي، تناولته العديد من الجهات الإعلامية والسياسية على المستويات الرسمية والشخصية، حيث تناول كل طرف الحدث من زاويته الخاصة ومن موقعه السياسي أو الوظيفي. لسنا بصدد تصنيف مستويات المواقف بقدر ما سنسعى لفهم مضمون ومحتوى المبادرة والاعتبارات التي دفعت الدولة…

شكري بكر المتتبع لشأن المجتمعات البشرية على كوكبنا الذي نعيش فيه جميعًا، وعلى اختلاف أعراقها وأديانها، يلاحظ أن هناك أشكالًا مختلفة من الصراع؛ منها ما يذهب نحو حب الذات، ومنها ما يسير في اتجاه إقصاء الآخر المختلف، ومنها ما يسلك دروب الإرهاب عبر استخدام القوة للهيمنة على السلطة والنفوذ، واستغلال خيرات البلدان التي هي ملك الشعوب، لا ملك طائفة محددة…