زاكروس عثمان
لجان امرك مولاي
يتابع ابو محمد الجولاني رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا اتخاذ سلسلة اجراءات يرمي من ورائها الانفراد بالسلطة ومن ثم احتكارها، مقلدا بذلك الرئيس السوري المقبور حافظ الاسد الذي اقدم في بداية حكمه على عقد مؤتمرات وتأسيس مجالس وتشكيل لجان ووضع الدستور وتشكيل برلمان وإلى ما هنالك من مهازل انتهت بإنتاج دكتاتورية دموية حكمت سوريا اكثر من نصف قرن.
و هذا هو الجولاني ايضا يقيم هياكل خاوية ويطلق فقاعات في الهواء، كانت آخرها اعلان تشكيل لجنة لكتابة مسودة دستور سوري جديد وصولا إلى تشكيل حكومة صورية، استجابة لمطالب الامم المتحدة وبعض الدول في إطلاق عملية سياسية شاملة تشارك فيها مختلف القوى السورية بعيدا عن هيمنة اللون الواحد على السلطة والدولة، ولكن الذي يحدث عمليا هو ان الجولاني يوطد منظومة حكم دكتاتوري توتاليتاري مُرَكَب، من خلال تركيز السلطة بيده و فرض ايديولوجيا سلفية على الدولة والمجتمع، والمخيف في الامر ان الاعيب الجولاني مكشوفة تماما للمجتمع الدولي ولكن هذا الاخير يخدع الرأي العام العالمي وكذلك يخدع نفسه ويلتزم السكوت تجاه الخروقات التي تقوم بها الطغمة السلفية الحاكمة في دمشق، والأنكى من ذلك هو ان اطراف اقليمية و دولية تغض الطرف عن احتكار هيئة تحرير الشام ـ هتش لقيادة العملية السياسية، بكلام آخر المجتمع الدولي غير مكترث بالسياسية الداخلية للحكومة طالما هي تتعهد بعدم الاتيان بأعمال ارهابية خارج الاراضي السورية، فلا غرابة اذا طنشت العواصم على قيام هتش ومن خلفها الاستخبارات التركية بتعيين اعضاء اللجان والمؤتمرات والحكومة المقبلة، والهيمنة تعني التدخل في شؤون اللجان وبالتالي انعدام استقلالية اعضائها، فما بالك في استقلالية الفريق القانوني المكلف بوضع الدستور.
فريق تكنوقراطي ولكن!
اعلن الجولاني عن تشكيل لجنة لكتابة مسودة دستور، تضمنت قائمة بأسماء اساتذة اكاديميين وخبراء في القانون “تكنوقراط” المفروض بهم انهم بحكم المهمة التاريخية الجليلة التي اوكلت اليهم ان يكونوا مستقلين محايدين في عملهم، منزهين عن الايديولوجية والنوازع السياسية، لانهم مكلفون بإنجاز عمل كبير يتحدد عليه مصير شعب ومستقبل دولة، وتبعا لتجارب بلدان عاشت حروب اهلية فان مفتاح الخروج من الازمة يكون باتفاق الافرقاء على عقد اجتماعي جديد عادل ينهي الاسباب التي فجرت الحرب، ما يعني دولة جديدة مجتمع جديد اساسه العدل والمساواة لهذا توكل مهمة الاتيان بعقد اجتماعي إلى ارفع الناس علما نزاهة نبلا و مكانة، كونها مهمة نبيلة تنظم قدر المستطاع علاقات عادلة بين الناس بعضهم ببعض، بين الناس والدولة، بين المجتمع والدولة، بين الفرد والدولة، الى ما هنالك من علاقات كثيرة، كلها تؤسس للسلم الاهلي، السؤال هل اللجنة الدستورية التي اعلنت عنها هتش قادرة على انجاز هذا العمل العظيم، إن كانت مقيدة بشروط واوامر ونواهي الطغمة الجولانية السلفية الحاكمة…افعل كذا ولا تفعل كذا، هذا ليس استنتاج شخصي بل مواد مسودة الدستور القادم تؤكد ذلك.
مسودة الدستور لا تبشر بالخير
ان تشكيل لجنة لوضع الدستور يبدو من الوهلة الاولى امر محمود إذ لا اجمل من تسليم عمل ما إلى المختصين فيه، ولكن بمجرد ان تقرأ رؤوس اقلام مواد الدستور العتيد حتى تصاب بخيبة الامل، حين تجد ان الدستور فَقَدَ مصداقيته حتى قبل ولادته الميمونة، وتهاجمك الوساوس من كل صوب حين تجد في مقدمة مواده مادة تنسف مصداقية اللجنة واستقلاليتها، حين تحسم هتش الامر وتقرر سلفا بان الفقه الاسلامي المصدر الاساسي للدستور، من الواضح ان القرار لم يصدر عن اللجنة الدستورية بل كان جاهزا مسبقا وصادرا عن اعلى سلطة في حكومة الجولاني، بهذه الحالة لا تبقى للخبير القانوني اية استقلالية او حرية لكتابة الدستور طالما تم تقييد مصادره بالقرآن والسنة، دون مصادر القوانين الوضعية، وهنا الطامة الكبرى لان الخبير القانوني (التكنوقراطي جدا) الذي يقبل على نفسه كتابة دستور اعتمادا على مصدر غيبي فقط، ويستغني عن المصادر الوضعية، يكون قد قَبِلَ سلفا بوضع دستور وفق مشيئة الحاكم وشروطه، بهذه الحالة تنتفي عنه صفة تكنوقراطي ويتحول إلى سياسي باعتباره رضخ لفريق السلطة الحاكمة او انضم اليه، لتصبح التكنوقراطية فقاعة لا تخدع احدا إلا المتهافتين على الجولاني ممن يرغب ان يخدع نفسه لتحسين صورته امام القوى الدولية، نعم التكنوقراط الذين انتقاهم الجولاني لوضع الدستور مجرد صور ديكور لإبهار الاجانب او ارضائهم وخداع السوريين غير الملتزمين بالدين، ولسان حال السوريين المتنورين يقول: ما هي قيمة هؤلاء التكنوقراط اذا كانوا يفتقرون إلى الاستقلالية وحرية القرار، و يوافقون على تقييد مئات ومئات المسائل الحياتية للمواطنين وانشطتهم وفعالياتهم المختلفة في حدود التشريع الاسلامي وفق التفسير السلفي الجهادي، الا يعني هذا الغاء الحريات العامة والفردية.
دستور تمييزي عنصري
في مواد اخرى تستمر نفس النغمة ويظهر جليا ان ضابط الايقاع ليس استاذ جامعي ولا مُشَرع او خبير قانوني بل فقيه داعشي من وراء الستارة يملي على التكنوقراطي ماذا عليه ان يقول وماذا عليه ان يكتب، لتفاجئنا مادة دستورية بشرط عجيب وهو ان يكون دين رئيس الدولة الاسلام حصرا، هذا شرط معيب يهين ملايين السوريين من اتباع الاديان الاخرى ومن العلمانيين والملحدين، شرط لا يصدر عن اكاديمي بل عن شخص جاهل متخلف رجعي، ينثر بذور التمييز العنصري وينفخ في نار الطائفية، هو عنصري من ناحيتين، الاولى ناحية غيبية وهي الايحاء بان الله يفضل المسلمين على غير المسلمين، وما يترتب على ذلك من نيلهم امتيازات سماوية خاصة بهم وحدهم دون غيرهم، الناحية الثانية تخصيص المسلم برئاسة الدولة وحرمان غير المسلمين منها يمنح المسلم بشكل نمطي ميزة التفوق في القيادة ما معناه ان غير المسلمين اقل جدارة بالقيادة، فان كان هناك تعريف لهذا الموقف فهو التمييز العنصري بعينه، لان الغيب لا يميز بين البشر تبعا لدينهم بل تبعا لصلاحهم وتقواهم وفعلهم للخير، ولان عوامل تفوق البشر في القيادة والريادة لا ترتبط بانتمائهم الديني، بل بالتربية والتعليم وقدرات فردية خاصة ممنوحة من الطبيعة، بدليل ان انجح رئيس للدولة السورية منذ تأسيس الفرنسيين لها الى اليوم كان المسيحي فارس الخوري، كما نجد ان اكثر دول العالم ازدهارا وتطورا ورفاها يحكمها زعماء غير مسلمين، وان اكثر الدول تخلفا وبؤسا وحروبا هي الدول التي يقودها زعماء مسلمين، فعلى اي اساس يحتكرون منصب رئيس الجمهورية للمسلمين فقط، هل يرغبون في تصعيد الحساسية العصبية بين المكونات الدينية، من خلال الحاق غبن مستدام باتباع الديانات غير الاسلامية بحرمانهم من حق الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، قد يكون بينهم مواطنين اكفاء شرفاء موهوبين في قيادة الدولة وادارتها فلماذا نحرمها من هذه الكفاءات ونفضل عليها من هم اقل مستوى لا لشيء انما لمجرد انهم مسلمون، هذا سخف والسياسي الذي قرر ادراج المادة في الدستور سخيف والاكثر سخافة هو الاكاديمي الحقوقي الذي يقبل بها.
دستور إلغائي خبيث
في مجال الدستور ابقى الجولاني على اختراعات نظام الاسد، سواء في تحديد الهوية الدينية لرئيس الجمهورية، او جعل العربية اللغة الرسمية الوحيدة في الدولة، كذلك بالإبقاء على اسم الدولة (الجمهورية العربية السورية) والامتناع عن إزالة كلمة العربية منها، إذ كما تصر هتش على منح امتيازات عنصرية للمسلمين فأنها تجد القومية العربية متميزة عن القوميات والاعراق الاخرى في البلاد، وحين يمنحون الدولة هوية عروبية فانهم يحصرون ملكيتها بالعرب وحدهم، و ينكرون هوية باقي القوميات خاصة القومية الكوردية، وما يترتب على ذلك من انكار حقوقهم القومية والسياسية، في هذه الجزئية تتماهى هتش مع سياسة حزب البعث في الغاء القومية الكوردية ومن ثم تعريضها لعمليات التعريب والصهر القومي، بكلمة اخرى احضر الجولاني فريق من القانونيين يبدو انهم قريبين من عقيدته الفكرية والسياسية، لوضع دستور خبيث استبدادي عنصري طائفي، يمهد لإنتاج إمارة مركزية سنية عروبية تحكمها شريعة إرهابية، دستور الغائي كهذا يناقض الهوية السورية الجامعة الشاملة التي تعبر عن كافة المكونات القومية والدينية السورية، الجمهورية السورية حاف تصلح ان تكون هوية للكوردي والعربي والتركماني …الخ، اما الجمهورية العربية السورية مع الزائدة الدودية فأنها لا تعبر إلا عن الهوية العربية.
دستور البعث المزمع تعديله على يد هتش
نتذكر نحن الكورد كيف كنا ننظر بحسرة الى اوراقنا الرسمية الصادرة عن الحكومة السورية وهم يكتبون عليها في خانة الجنسية ع.س اي عربي سوري، واليوم ماذا لو سألني احدهم عن قوميتي هل اقول انا “كوردي سوري” ام “كوردي عربي سوري” ام “عربي سوري” هذا امر غير منطقي كيف يلصقون بي هوية قومية عروبية وانا من القومية الكوردية، ليس هناك سبب سوى الرغبة الجامحة في الصهر العرقي والديني، فالمشروع السلفي العالمي هو اسلمة البشر والحجر وتعريب الانسان والبقر، وانه شيء مخجل ان تُنسَب دولة متعددة الاعراق والاديان إلى عرق واحد، وان يرمز عَلَمُها إلى العرق ذاته، هل سوريا بقعة ارض في البادية حتى تسمى باسم عشيرة استوطنت فيها، ام هي بلد يتضمن اوطان محلية وفي مثل هذه الحالة تُنسَب الدولة إلى اسم الارض المقامة عليها او إلى مظهر طبيعي في جغرافيتها و تضاريسها، لقد استعمر الانكليز العالم الجديد واسسوا فيها دولة الولايات المتحدة الامريكية ولو ان المستوطنين الانكليز هناك اتبعوا منطق العروبيين السوريين لكانوا سموا الدولة بالولايات المتحدة الانكليزية، كذا الامر في استراليا ونيوزلندا وعشرات المستعمرات التي نالت الاستقلال حملت اسماء لا تدل على هوية عرقية.
الغام وعفاريت
الطريف في الامر ان دستور البعث المزمع تعديله على يد هتش يتحدث عن ضمان حقوق الاقليات، مع ان تسمية اقلية بحد ذاتها هي انتقاص واساءة إلى مكون قومي او ديني صغير العدد، ولكن كيف تضمن هتش حقوق المكونات إذا كانت مواد اخرى في دستورها تنسف حقوق المكونات، الم تذكر مسودة الدستور بان العروبة هوية الدولة، وان المصدر الاساسي للدستور هو التشريع الاسلامي، وان الاسلام هوية رئيس الجمهورية، طيب اذا كانت العروبة وحدها هوية للدولة اين هي هوية باقي المكونات ام هي ضيوف على الدولة، واذا كان التشريع الاسلامي مصدر اغلبية القوانين من يضمن ان هذا الاحتكار لن يمس المكونات الدينية الاخرى بسوء او يحد من حريتها، واذا حُدِدَ الاسلام كشرط للترشح لمنصب رئيس الجمهورية إلا يعني هذا حرمان اتباع المكونات الدينية الاخرى من حقوق الانسان الاساسية، اين هي حقوق الاقليات!! يا جولاني اذا كنت تحرمها للترشح لمنصب الرئيس لا لجرم ارتكبه احدهم بل لأنه ليس مسلم، وتتحدثون عن حرية القيام بالشعائر الدينية ثم تضعون شرط (الا يخل ذلك بالنظام العام) هنا تبدأ عفاريت التفاصيل باللعب، سوف يفسرون عبارة الا يخل بالنظام العام مليون تفسير وتفسير وكلما زادت التفاسير زادت القيود على حرية ممارسة العبادات، غدا يمنعون حمل تمثال المسيح عليه السلام في الشارع بحجة تحريم الاوثان، غدا يمنعون الايزيديين من اداء طقوسهم لانهم ليسوا من اهل الكتاب!! وفي النهاية سوف يضيقون نطاق الاحتفال بالمناسبات الدينية لغير المسلمين فقط داخل المعبد، من يدري ربما يفرضون الجزية على اهل الذمة، ولا يخجل المُشَرع من الحديث عن المساواة بين المواطنين، اية مساواة اذا كنتم تقيمون الدنيا ولا تقعدونها اثناء اداء طقوس اسلامية، فيما تحصرون عبادات الاخرين في اضيق نطاق، كيف تتحقق المساواة امام قانون مستخرج من الشريعة الاسلامية، طيب اذا تخاصم مواطن من الديانة الايزيدية مع مواطن من الديانة الاسلامية وتمت محاكمتهما الن يتم اخضاع الايزيدي لأحكام القانون الاسلامي مع انه ليس بمسلم وهنا بدون قانون وضعي مدني تنتفي المساواة و العدالة، اضحكني كثيرا ـ شر البلية ما يضحك ـ وانا اشاهد مقطع يظهر عنصر مسلح في هتش يتهجم بشراسة على شاب ويطلب منه بحدة برمي السيكارة لان الدينا صيام، نعم تكنوقراط الجولاني ضمنوا الحقوق وحرية التعبير وفقا للقانون ولكن ما يضمن النظام العام واحترام حقوق الاخرين، فكيف لمراهق يتجاوز على النظام العام ويحتقر حقوق الاخرين ليدخن سيكارة والناس صايمين، انها الحرية على نهج داعش، هذه مسودة الدستور السوري الجديد مزروعة بالألغام فأي عفاريت تكمن في تفاصيله.
يتبع ج7